حماس ولقاء الفرصة الأخيرة
وصل وفد من حركة حماس إلى القاهرة الثلاثاء برئاسة خليل الحية، محمّلًا بملفات ثقيلة لا تحتمل التأجيل: وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ومستقبل الحكم في غزة وترتيبات اليوم التالي للحرب، في زيارة تبدو أقرب إلى محاولة إنقاذ أخيرة لمسار تفاوضي أنهكته الميدانيات بينما الجرح الإنساني في القطاع يتسع إلى حدود لم يعد أيّ وسيط قادرًا على تجاهلها. وفي موازاة ذلك كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن ملامح عرض مصري متكامل يقايض إطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين بنزع سلاح حماس، ضمن صفقة تشمل وقف إطلاق النار والإفراج عن أسرى فلسطينيين، وهو كشف لا يأتي مصادفة بل يمثل رسالة اختبار للحركة وأداة ضغط على حساباتها وإشارة إلى أن القاهرة مستعدة لوضع أوراق ثقيلة على الطاولة إذا كان المقابل إنهاء الحرب ورسم معادلة اليوم التالي.
منذ بداية الحرب أحبطت مصر، كدولة جوار متضررة أولًا وكقوة إقليمية تسعى لممارسة دورها ثانيًا، مشروع إسرائيل الخطير الذي اتخذ من خطيئة السابع من أكتوبر ذريعة لإفراغ قطاع غزة من سكانه ودفعهم إلى صحراء سيناء في مخيمات لجوء جديدة على غرار مخيمات لبنان وسوريا، ثم واصلت مساعيها الدبلوماسية لإنهاء الحرب، غير أن الوساطة تعثرت أمام ألغام زرعتها حماس وإسرائيل على حد سواء. سياسياً، تتبنى القاهرة مقاربة “إعادة الشرعية المؤسسية” إلى غزة عبر السلطة الفلسطينية، ليس انحيازًا لفصيل ضد آخر، بل إدراكًا أن إدارة ما بعد الحرب لا تُترك لفراغ مسلح ولا لسلطة أمر واقع مدججة بالسلاح وعاجزة عن تقديم التزامات قابلة للقياس. لذا تبدو الرؤية المصرية واضحة: لا تسوية قابلة للاستدامة من دون مظلة فلسطينية معترف بها دوليًا، تقود مرحلة انتقالية تُغلق قوس الفوضى وتفتح باب الإعمار بتمويلات لا تأتي بلا شروط.
ربما لا تعرض القاهرة خيارًا مثاليًا بقدر ما تطرح مخرجًا مكلفًا لكنه أقل فداحة من استمرار الحرب
السؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كانت حماس تملك رفاهية القبول، فداخل الحركة تنقسم البوصلة بين شرعية ثورية ترى في السلاح هويةً لا مجرد أداة وتعتبر أيّ مسار لنزعه خسارة لجوهر النفوذ، وشرعية بقاء مجتمعي تضع حياة الناس وإعادة الإعمار واستعادة الخدمات فوق الامتيازات الفصائلية. الحركة تدرك أن القبول بنزع السلاح، ولو تدريجيًا ومشروطًا، هو اعتراف بفشل نموذج سلطة الأمر الواقع، وأن عودة السلطة الفلسطينية، ولو كغطاء، ستقلص من هامش دورها، ما يضعها أمام تناقض قاسٍ: غزة تدفع كل يوم ثمنًا لا يُحتمل بينما جزء من قيادة الخارج يراهن على استمرار معركة تعظيم المكاسب حتى ولو جاء ذلك على إيقاع المزيد من الركام، ومع كل يوم تأخير يتآكل رصيد الحركة الاجتماعي حتى لو خرجت ببيان انتصار جديد.
إسرائيل بدورها تستخدم الوقت كأداة ضغط ومساومة، فإبقاء النار تحت الرماد يضعف بنية الحكم في غزة ويرفع كلفة أيّ عودة منظمة، فيما يبقى ملف الأسرى ورقة ضغط داخلي ووسيلة لإطالة الضغط الميداني إلى حين فرض ترتيبات أمنية تمنع إعادة بناء القدرات العسكرية، وأيّ صفقة لن تمرّ ما لم تنتج “طمأنة أمنية” ملموسة تترجم بضبط المعابر والمراقبة التقنية وربما ترتيبات حدودية مؤقتة.
البديل الواقعي ليس شعار “ما بعد حماس” بقدر ما هو هندسة إدارة انتقالية بثلاثة أعمدة: مظلة فلسطينية شرعية تمثل حكومة تكنوقراط تحت سلطة معترف بها لا تُقصي أحدًا ولا تمنح الفيتو لمنطق السلاح، وضمانات دولية تتصدرها مصر بدور محوري مع تمويل عربي ورقابة أممية على الممرات والمعابر، ومسار أمني مهني يقوم على شرطة مدنية محلية وتجريم اقتصاد السلاح وبرامج لإعادة دمج من يتركه في أفق معيشي جديد، ومن دون هذه الأعمدة سيعود الفراغ لنعود إلى الحلقة المفرغة من جديد.
في المحصلة ربما لا تعرض القاهرة خيارًا مثاليًا بقدر ما تطرح مخرجًا مكلفًا لكنه أقل فداحة من استمرار الحرب، أما بالنسبة إلى حماس فالمفاضلة اليوم بين خسارة سياسية يمكن إدارتها ضمن معادلة وطنية وخسارة مجتمعية قد لا تُرمم لعقود ولأن السياسة فن تقليل الخسائر فإن توقيع وقف إطلاق النار ضمن ضمانات جدية والقبول بانتقال منظم للحكم ليسا هزيمة بقدر ما هما إعلان نهاية لحكم الفوضى، أما الرهان على “فندق بعيد عن الخيمة” فلن يطعم طفلًا ولن يعيد بيتًا ولن يمنح سردية متعبة أكثر من جرعة شعارات إضافية.