نتنياهو وخطة ترامب للسلام
أثار قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العلني لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في غزة يوم الاثنين ردود فعل تراوحت بين الأمل والقلق والارتباك التام.
فبعد خمسة أيام فقط من معارضته الشديدة لقيام الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي في البيت الأبيض مؤيدا خطة يبدو أنها تُعزز هذه النتيجة تحديدا. وكان هذا في نظر شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف استرضاء يكاد يكون خيانة. أما بالنسبة إلى معارضيه، فقد كان اعترافا طال انتظاره في الواقع.
مع ذلك، فإن تفسير هذه الخطوة على أنها استسلام يُسيء فهم نتنياهو وتكتيكاته. فليس قبوله “لمبادئ السلام” التي طرحها ترامب استسلاما، بل تعديل للإستراتيجيات. فلقد تبنى خطة يُرجّح أنها مُصمّمة للفشل، وتهدف إلى تخفيف الضغط الدولي، وتأمين عودة الرهائن، وفي النهاية استعادة السيطرة على مواصلة العمل العسكري بشروطه. ويفكر نتنياهو عدة خطوات إلى الأمام، وحدث البيت الأبيض ليس سوى بداية مرحلة جديدة في لعبته.
◄ لطالما كانت موهبة نتنياهو تكمن في قدرته على إدارة الجماهير المتنافسة. فهو يُقدّم نفسه في واشنطن كحليف أساسي لترامب، مُؤيّدا خطة أميركية، مُتجنّبا بذلك الصراع مع الداعم الرئيسي لإسرائيل
وفي حين تبدو الخطة المكونة من 21 نقطة رائدة نظريا، إلا أنها عمليّا عبارة عن مجموعة من الشروط والمعالم غير الواضحة، يُقدم كل منها لنتنياهو إستراتيجيات خروج محتملة. فبدلا من أن يحكم غزة كيان فلسطيني ذو سيادة، ستُشرف على غزة “هيئة سلام” دولية، بقيادة ترامب، ويلعب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، حسبما ورد، دورا إداريا رئيسيا فيها. وستُوكل المهام الأمنية إلى “قوة استقرار دولية،” يُرجح أن تتألف من قوات من دول عربية مجاورة. هذا الترتيب ينقل مسؤولية استقرار غزة إلى جهات خارجية، ما يسمح بإلقاء اللوم على “التقصير الدولي” في أيّ فشل أمني أو إعادة إعمار، بدلا من السياسات الإسرائيلية.
ويُبرز تسلسل الاتفاق هندسته السياسية الماكرة، إذ يتوقف القتال فور الموافقة على الخطة، مع إطلاق سراح جميع الرهائن في غضون 72 ساعة من ذلك. في المقابل، تُفرج إسرائيل عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. ومع ذلك، فإن أهم التزامات إسرائيل (الانسحاب العسكري الكامل) يبقى مُؤجّلا إلى أجل غير مسمى. وترتبط أيّ انسحابات إضافية صراحة بنزع سلاح غزة، دون جدول زمني واضح أو وسيط. ويسمح هذا الغموض لإسرائيل بالحفاظ على “وجود أمني في محيطها” حتى تُقرر من جانب واحد أن غزة آمنة، ما يمنحها فعليا سيطرة دائمة على انسحابها النهائي.
فأي خرق أو رفض من حماس أو جمود في الحكم يُعطي إسرائيل مبررا لاستئناف العمليات العسكرية. وفي مثل هذه السيناريوهات، يُمكن لنتنياهو أن يُلقي باللوم في انهيار الاتفاق على التعنت الفلسطيني أو عدم الكفاءة الدولية.
الجانب الأكثر إرباكا في هذا الوضع هو اعتماد نتنياهو على شركاء ائتلافيين قوميين متطرفين يرفضون حتى أدنى تلميح للحكم الذاتي الفلسطيني. وكما كان متوقعا، ردّ وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بغضب. وشبّه سموتريتش اعتذار نتنياهو لقطر بمهادنة النازيين، بينما أعلن بن غفير أن رئيس الوزراء يفتقر إلى أيّ تفويض لإنهاء الحرب دون هزيمة حماس هزيمة كاملة.
والتفسير البراغماتي واضح: فأي شيء لا ينجح يُمكن تجاوزه سياسيا، فخطة ترامب مليئة بنقاط الفشل المحتملة. وهي تتطلب تعاونا كاملا من الأطراف التي تفتقر إلى الحافز والقدرة على الامتثال، بما في ذلك حماس (التي يجب أن توافق على نزع سلاحها وحلها السياسي)، وسلطة فلسطينية “مُصلَحة” (وهي هيئة غير قائمة بعد)، وائتلاف دولي مُفكك.
وعندما ينهار هذا الإطار المُعقّد حتما (على الأرجح بسبب رفض حماس نزع سلاحها) سيُصوّر نتنياهو نفسه وكأنه تصرف بحسن نية، بينما ثبتت صحة شكوكه. وسيزعم أنه أبدى استعدادا للسعي إلى السلام، ليعوقَه خصم عنيد.
◄ في حين تبدو الخطة المكونة من 21 نقطة رائدة نظريا، إلا أنها عمليّا عبارة عن مجموعة من الشروط والمعالم غير الواضحة، يُقدم كل منها لنتنياهو إستراتيجيات خروج محتملة
ويُقدّم استرداد الرهائن المتبقين خدمة سياسية كبيرة لنتنياهو. وتضمن الخطة لإسرائيل تحقيق هدفها السياسي والمعنوي الأهم بأقل قدر من المخاطر المسبقة. فإذا لم تُطلق حماس سراح الأسرى أو إذا تعثرت العملية، يُمكن لإسرائيل تبرير استئناف العمليات العسكرية. وإذا أُعيد الرهائن وفشلت الخطة لاحقا، فسيكون نتنياهو قد حقق بالفعل انتصارا وطنيا كبيرا. وفي نفس الوقت، سينظر إليه كل من المجتمع الدولي وتيار الوسط اليساري السياسي الإسرائيلي كقائد قادر على التحلي بالمرونة، وقد ثبُتت حاجته إلى “إتمام المهمة”.
تبقى صياغة الخطة المتعلقة بالدولة الفلسطينية غامضة عمدا. فهي تُشير إلى أن الدولة قد تتحقق يوما ما، مشروطة بإصلاحات غير مُحددة، وسلوك حسن، ومستويات مُتعددة من المصادقة الخارجية. ولا تُقدّم أيّ جدول زمني، ولا عملية مُحددة، بل مجرد اقتراح “مسار موثوق”. فبالنسبة إلى حلفاء نتنياهو من اليمين المتطرف، ورغم خطابهم العلني العنيف، فإن الطمأنينة السرية واضحة: لا شيء في الخطة يُلزم إسرائيل بشكل لا رجعة فيه. وتظل إقامة الدولة احتمالا بعيدا يمكن تأجيله إلى أجل غير مسمى.
لطالما كانت موهبة نتنياهو تكمن في قدرته على إدارة الجماهير المتنافسة. فهو يُقدّم نفسه في واشنطن كحليف أساسي لترامب، مُؤيّدا خطة أميركية، مُتجنّبا بذلك الصراع مع الداعم الرئيسي لإسرائيل. ويُطمئن المتشددين في القدس بهدوء بأنّ كل بند فيها يتضمن منفذا للانسحاب. ويُقدّم للجمهور الإسرائيلي المُنهك مسارا لإعادة الرهائن إلى ديارهم. فالعرض برمّته هو تراجع مُدبّر، حيث يُمثّل مظهر التسوية في الواقع تراكما دقيقا للنفوذ السياسي والخيارات العسكرية المُستقبلية.
وفوق كل ذلك، يُبدع نتنياهو في توقّع الفشل. فهو يُدرك أنّ عمليات السلام نادرا ما تتقدّم بشكل خطّي، وأنّ التنازلات المؤقتة يُمكن أن تُكسب حسن النية الدولي، وأنّ الاتفاقات المُبهمة تُولّد النفوذ الثمين. ولا يعني قبوله بخطة ترامب نهاية تطلعاته السياسية، بل يُمثّل أحدث خطواته التكتيكية في صراع مُستمرّ على المكاسب، حيث يعتمد البقاء على غياب الالتزام الكامل، وعدم التنازل الكلي، والبقاء في الواجهة دائما.