مرجعية الدستور وثوابت النظام الديمقراطي

تكريس مبدأ المشاركة الوطنية المقترن بدستور دائم يحظى بالقبول والاحترام يمثل الضمانة الأساسية لبناء نظام ديمقراطي تعددي ويحول دون المساومات التي تهدد مصالح العراق وتضعها في مهب الريح.
الأربعاء 2025/10/15
انتخابات أم شراء ذمم وأصوات

في مثل هذا اليوم، قبل عشرين عاماً، وتحديداً في الخامس عشر من تشرين الأول/أكتوبر، خرج ملايين العراقيين منذ ساعات الصباح الأولى من بيوتهم متوجهين إلى مراكز الاقتراع للتصويت على مشروع الدستور الدائم، الذي ساهم بصياغته وكتابته سياسيون وخبراء ومتخصصون يمثلون مختلف مكونات المجتمع العراقي.

غالبية أبناء الشعب العراقي صوتوا بـ(نعم) لصالح مشروع الدستور، وكانت تلك رسالة بليغة ومعبرة وعميقة في دلالاتها ومعانيها عن تطلع العراقيين لطوي صفحات الديكتاتورية والاستبداد، وفتح صفحة جديدة مختلفة عن سابقاتها، ووضع أسس ومرتكزات سليمة وقوية ورصينة للعراق الجديد، وكان الدستور هو المحور وقطب الرحى.

كان خروج العراقيين قبل عشرين عاماً، والتصويت لصالح الدستور قد مثّل تحدياً كبيراً، أثبت شجاعة وإقدام وإرادة هذا الشعب، في خضم ظروف وأوضاع أمنية وسياسية كانت خطيرة وحساسة للغاية.

إن وجود ثغرات وهفوات ومكامن ضعف لم يُلغِ قيمة الإنجاز والمكسب الذي تحقق من خلال إقرار الدستور، إذ إن وضع اللبنات الأساسية والرئيسة للنظام الديمقراطي أمر لابد منه من أجل الانطلاق والتقدم إلى الأمام

ولم يكن الدستور في جوهره ومضمونه مثالياً، فقد وُلد في ظل ظروف صعبة ومعقدة جداً، ومنذ البداية كان واضحاً أنه يحتاج إلى مراجعات عديدة وإعادة نظر في بعض مواده، وهذا ما اتفقت عليه معظم الكتل والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية.

إن وجود ثغرات وهفوات ومكامن ضعف لم يُلغِ قيمة الإنجاز والمكسب الذي تحقق من خلال إقرار الدستور، إذ إن وضع اللبنات الأساسية والرئيسة للنظام الديمقراطي أمر لابد منه من أجل الانطلاق والتقدم إلى الأمام، مع استمرار عمليات الإصلاح والتعديل والتغيير المطلوب، في إطار الدستور ذاته وتحت سقفه.

ولعل المؤشر المهم على أهمية الدستور هو أن القوى التي وقفت ضده في بادئ الأمر، راحت فيما بعد تحتكم إليه وتعتبره مرجعاً لها، وتدعو الآخرين إلى الاحتكام إليه، وترفض القفز عليه أو تجاوزه.

واليوم فإن كل خطوة تُتخذ في إطار الدستور ووفق ضوابطه من شأنها أن تسهم في تقوية وتعزيز النظام الديمقراطي التعددي في البلاد، وكل تحرك يتقاطع مع الدستور ويصطدم به لا يفضي إلا إلى إضعاف النظام وتعريضه للخطر، وبالتالي فإن ذلك الخطر ينسحب على الجميع.

ولا شك أنه في بلد مثل العراق يمتاز بتنوع نسيجه الاجتماعي والسياسي، لا يمكن إدارة وتوجيه شؤونه بنجاح من دون مشاركة حقيقية من قبل كل الأطراف السياسية التي تعكس ذلك التنوع وتعبر عنه وتترجمه بصورة صحيحة على أرض الواقع.

والعراق ليس البلد الوحيد في العالم الذي يحمل ميزة التنوع، فهناك بلدان أخرى تحمل نفس الميزة، مثل سويسرا، وبلجيكا، وهولندا، والولايات المتحدة الأميركية، وأستراليا، وكندا، ولبنان، وإيران، ونيجيريا، وغيرها.

وبعض هذه الدول نجحت في التوصل إلى صيغ مناسبة وملائمة لاستيعاب وتوظيف ذلك التنوع واستثماره بالشكل الصحيح للتقدم إلى الأمام وترسيخ مبادئ وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والنهوض والازدهار، وبعضها الآخر أخفق في ذلك وفشل ليعيش في دوامة الصراعات والنزاعات والحروب، ويبقى رازحاً تحت وطأة الفقر والمرض والتخلف.

النموذج الأول سار في الطريق الصحيح من خلال تبني النظام الديمقراطي الذي صهر كل المكونات في بوتقة واحدة، وضمن حقوقاً للجميع مثلما رتب واجبات على الجميع، ووفر فضاءً واسعاً لكل المكونات لكي تشارك مشاركة حقيقية، وفي كل المستويات، بإدارة شؤون البلد. لذلك نجد أن الحروب والصراعات الداخلية والمشاكل السياسية الحادة والاحتقانات التي تعطل مسيرة البناء وتهدد مصالح الناس ليس لها حيز في الواقع العام. على العكس تماماً من النموذج الثاني الذي اعتمد النظام الديكتاتوري الشمولي الاستبدادي، الذي يقوم على حكم وتسلط أقلية قومية أو دينية أو إثنية على مقدرات وشؤون البلاد، وإقصاء وتهميش كل المكونات الأخرى، واعتماد منهج القمع والتنكيل بحق الآخرين، بحيث تغيب كل مظاهر المعارضة والرأي الآخر، حتى وإن كان طابعه سلمياً لا يشكل تهديداً حقيقياً للسلطة والنظام.

العراق في عهد نظام البعث المقبور مثّل النموذج الأسوأ للأنظمة الديكتاتورية، فهو قمع الأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب والفرات الأوسط، والسنة في الموصل والرمادي وتكريت، والتركمان في كركوك، والمسيحيين في أماكن مختلفة

والعراق في عهد نظام البعث المقبور مثّل النموذج الأسوأ للأنظمة الديكتاتورية، فهو قمع الأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب والفرات الأوسط، والسنة في الموصل والرمادي وتكريت، والتركمان في كركوك، والمسيحيين في أماكن مختلفة. ولم يكن يمثل مكوناً بعينه، ولم يدافع ويحمي مكوناً بذاته، رغم أنه كان يحاول دائماً الإيحاء بأنه يمثل طائفة معينة في مقابل طائفة أخرى، وقومية في مقابل قوميات أخرى.

وبعد زوال النظام الديكتاتوري كان من الممكن للعراق أن يكون نموذجاً صالحاً وحسناً للديمقراطية في بيئة إقليمية تعاني التخلف والقصور وضعف الثقافة السياسية الديمقراطية، وشيوع ثقافة التسلط والقمع والإقصاء. وما زال ذلك الأمر ممكناً ومتاحاً رغم الكم الكبير من المشاكل والتحديات التي واجهها ويواجهها العراق من الداخل والخارج على حد سواء.

تكريس مبدأ المشاركة الوطنية الحقيقية يمثل الخطوة الأولى لجعل العراق نموذجاً صالحاً وحسناً للأنظمة الديمقراطية في المجتمعات التعددية. والمشاركة الحقيقية كمبدأ لابد أن تقترن بوجود دستور دائم يحظى بالقبول والاحترام، ويكون هو المرجعية السياسية والقانونية لشركاء الوطن، ولا يكون عرضة للمساومات والصفقات السياسية التي تضمن مصالح طرف أو أطراف معينة، في الوقت الذي تهدد فيه مصالح البلد برمته وتجعلها في مهب الريح.

واليوم، فإن الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، تعد خطوة أخرى نحو ترسيخ أسس ومرتكزات وثوابت النظام الديمقراطي، إذا ما أُجريت في ظل أجواء سليمة، وسياقات قانونية صحيحة، بعيداً عن الاستئثار والاستغلال، والتشهير والتسقيط، والخداع والتضليل، وشراء الذمم والأصوات.

6