مؤيد محسن يحرر تراجيديا المشاعر في أعمال تشكيلية صادمة
يعرف الفنان العراقي مؤيد محسن بموهبته المتميزة التي جعلت منه واحدا من أهم الرسامين الذين يعيدون تصوير وخلق مشاهد سريالية، ومخلوقات منبعثة من الذاكرة الذاتية والمشتركة، حتى أنه أصبح صوت المتضررين من الفظائع، صوتا يقول كفى لكل الحروب والمآسي التي تمنع الحياة الإنسانية في شكلها المستقر والجميل.
أن تقف مشدوها تستغرب ما ترى، أن تتساءل وتعيد التساؤل مرات ومرات، أن تتبرم وتكاد تحتج، أن تشاهد ما يشعرك بالفظاعة والمعاناة في أعلى درجاتها، أن ترى ما لم تره قط، أن تستحضر حقائق إنسانية عميقة، ذاك ما تستشعره وأنت أمام لوحات الفنان العراقي مؤيد محسن.
لقد كتبت يوما في كتابي الصادر عام 2015 بعنوان “كلمات في لوحات” أنه “إذا كانت اللوحة بعلاماتها التشكيلية هي مادة الفن التشكيلي وعموده، فلا بد أن تكون معملا حافلا بالمعاني ومسلكا عامرا بالدلالات وأرضا خصبة لإنبات غابة من الرموز والأسنن والتي تغطي كل ما له صلة بالوجود الإنساني معلنا ولاءه لكل نشاطاته الطبيعية والثقافية على السواء ابتداء من النفعي التقريري المباشر ووصولا إلى الاستعاري الإيحائي الضمني ،فاللوحة تصلح لقول كل شيء عن أي كان، حتى ما يشعرنا بالحرج والتقزز أو الحياء أو الخوف أحيانا في محفل التواصل ذي السنن اللساني”.
◄ أعمال سريالية تحيل على الحروب والصراعات المبنية على الأنانية البغيضة، نسجت بعناية فائقة من حيث مكوناتها الفنية
ذلك ما يصدق على لوحات هذا الفنان العراقي الذي يحملك بأعماله الفنية كي تعانق المأساة في أرقى ذراها وتعيش الدهشة بكل أصنافها وتراهن على الاحتمالات المتناسلة من أجل القبض على الدلالات التي تشع بها كلما نظرت إليها أو أعدت النظر إليها.
في أعماله الإبداعية رجال تسير بلا رؤوس، تحمل همها إلى المجهول، فتاة عارية هي امتداد للطين تستر سوأتها بأعشاب برية، امرأة تبدو تمثالا مقطوعة اليد تحمل طفلها مغادرة تشعرك بالعنف والإكراه، آثار منحوتة مكسورة تعيدك إلى تاريخ فريد عمه السلام قبل اليوم، رجل بلا رأس يقبع قريبا من إله مكسور الهامة، صنم لتاريخ عريق يتخذ وسيلة للعبة كرة السلة بعد أن كان مهابا، رجل تحيط يدور رأسه المحاط بالخيوط بسرعة فائق يرفع يديه مغتاظا يستبد به الحنق عما جرى والتماثل تسقط تباعا بين يديه، رجل أعمى بيده سيف يواجه الفراغ يؤجج غضبه الدمار الساري حوله، رجل وفتاة عاريان متعانقان بملمـح ووضعية الحزن والأسى.تلك بعض من العوالم المعروضة في لوحات هذا الفنان الذي يترجم فظائع العالم بأسلوب سريالي وواقعي باهر.
ملمـح الغرائبية الحالم والمستفز يطبع كائنات وأفضية لوحاته المفعمة بالتواجد الحجري الذي يحدد زمنيتها في الماضي والحاضر، ويجعلها محيلة على حضارة قائمة على أركان متينة قبل أن تنهار لتدخل في معجم المآسي الصادة للأمن والسلام، مما يحول أعماله إلى حقول تراجيدية ترصد لما يعتمل في المحيط من جرائم بشعة تضرب المقومات في العمق وتحيلها إلى الحضيض كي تنتظر العودة إلى سيرتها الأولى ولو بعد حين.
أعمال سريالية بنكهة خاصة تحيل على الحروب والصراعات المبنية على الأنانية البغيضة، وهي أعمال نسجت بعناية فائقة من حيث مكوناتها الفنية لونا وضوءا وظلا وخلفيات مما يجعلها سريالية قريبة الدلالات التي تفضي بها وفق خلفيات المُشاهد، وهي بذلك نصوص بصيغة ما تضمر بين مفرداتها المتكاملة بعضا من فجائع الإنسانية بعيدا عن القيم الروحية والإنسانية التي طبعت وجودنا في زمن ما.

وحين تكون أمامها تدخل بإرادتك أو بغيرها عوالم تبلبل العقل وتدفع بك كي تنخرط في غابات من التأويلات محاولة للقبض عما تجسده ارتباطا بفجائع العالم اليوم. تستحضر الخوف، والحب، والطموح، والتحدي والإصرار، والانفراج، والصبر، واللاجدوى، والحزم والعزم، والأسى والحلم والانتظار والشوق.
إنها لوحات تضع اليد على شتى المشاعر التي تتوزع على وجدان الإنسانية في شتى بقاع العالم، فهي قلوب تنبض بما يختلج فينا، وهنا تتجلى وتتبدى وظيفة الفن المتمثلة في إيقاظ المشاعر الخامدة فينا مع تعزيز ملكة التأمل والنقد الاجتماعي وإثراء العلائق الاجتماعية وأواصر الإنسانية والمشاعر النبيلة، فلوحات هذا الفنان تعبير نافذ عميق عن خلجات الأحاسيس والأفكار الإنسانية المعقدة، وهي بذلك منارات جاذبة نحو التفكير في أسرار الإنسان وأزماته.
وهي بالتالي لوحات تعرض الأزمة متأرجحة بين الانتهاء وهاجس الاستئناف مما يجعلها لوحات تستفز فيك الاستقرار وتزعزع فيك السكينة فتسافر بك الذاكرة إلى بلدان نخرتها الحروب (العراق، سوريا، اليمن، أفغانستان…). وهي أولا وأخيرا تترجم الضغوط النفسية للفنان الذي يتكلم في الأخير ويعبر بالضمير الإنساني العام عبر رؤية قصدية تحمل رسائل الدعوة إلى السلم ونبذ التعصب والعنف المشوه والهادم للجمال، والفن حسب هيغل “إيقاظ النفس ذلك هو على ما يقال الهدف النهائي للفن وذلك هو المفعول الذي يفترض فيه أن يسعى إلى الوصول إليه وذلك ما يتوجب علينا أن نهتم به لا في المقام الأول.. على هذا الأساس يمكن أن يقال إن هدف الفن تلطيف الهمجية بوجه عام.”
وبذلك تدخل الأعمال الفذة والفريدة للفنان مؤيد محسن في هذا المضمار وهي تحاول أن تقول كفى للفظائع والفجائع، كفى لليباب والخراب والعذاب. وستظل هذه الأعمال تخاطب فينا ما تبقى من مشاعر الإنسانية إزاء بعضنا لإيقاظها وإيقادها كي تنتعش من جديد.




