ليتذكّر بوتين "حرب النجوم" الذي أطاح بأسلافه

"حرب النجوم" لم يكن مجرد فيلم، بل أداة بروباغندا ذكية استخدمتها أمريكا لتقويض نظام شمولي عبر خيال سينمائي كشف هشاشة القوة حين تُبنى على الخوف والتسلّط.
الثلاثاء 2025/10/07
كيف أسقط الخيال إمبراطورية الحديد والنار

أغلب أفلام الخيال العلمي التي أُنتجت قبل سلسلة أفلام “حرب النجوم” كانت متشابهة في قصتها، إذ تمحورت حول غزو الفضائيين للأرض وتحكّم الآلات بالبشر، حتى جاء “حرب النجوم” حاملًا معه العديد من القصص والأحداث في حبكة متقنة جمعت المغامرة والسفن الفضائية والتكنولوجيا المتقدمة والأسلحة العجيبة والكائنات الفضائية، والصراع بين الخير والشر. تمحورت أحداثه حول حرب تندلع في مجرّتنا، بعد قيام بعض الساسة بانقلاب أطاح بالسلطة الشرعية، وتأسيس حكومة شريرة بطشت بسكانها، وانبثاق مقاومة قادتها الأميرة “ليا” لإعادة الحرية والديمقراطية.

تأخذنا سلسلة أفلام “حرب النجوم” في رحلة مثيرة خلال المجرة، مع الكثير من المؤثرات البصرية والصوتية التي تجعل من الفيلم أكثر واقعية، وتتيح للمشاهد عيش التجربة مع أبطاله. وكان لموسيقى جون ويليامز، الموسيقار الأسطوري، دور كبير في تحقيق ذلك. وفعلًا، نجح الفيلم في الاستحواذ على الانتباه بفضل العمل المتقن الذي قدّمه، إلى جانب الطاقم التقني الذي لعب دورًا مهمًّا في إنجاح الفيلم. فقد سافر معدّو الفيلم إلى العديد من المواقع النائية في العالم لخلق تحفة فنية لا تتكرّر، باستخدام أحدث تقنيات التصوير والمؤثرات السمعية. كان فنًّا سابقًا لأوانه بكل المقاييس، فتح آفاق عقول الملايين على فضاء الكون الرحب، مع الكثير من الخيال الذي لم يُفسد لمتعة الفن قضية، وكان ضروريًا لتبسيط أفكاره وتقريبها لجميع الفئات العمرية التي شاهدته واستمتعت به، فبات فيلمًا تجتمع كل العائلة لمشاهدته. كما كان له في جانب ومكان آخر تأثير آخر، سنتحدث عنه لاحقًا! لذا بقي الفيلم حيًّا حتى بعد انتهاء عرضه في صالات السينما، عبر ألعاب الفيديو والقصص المصوّرة والتذكارات والسيوف الضوئية التي تميّز بها الفيلم، كما حرص مؤلفه على إبقاء الباب مفتوحًا لأحداث جديدة وتساؤلات عديدة أثارت توق وترقّب المشاهد لمتابعة ومعرفة أحداث أي جزء جديد يصدر.

يبدو أن بوتين قد نسي، في غمرة انتشائه بهلوسات جنون العظمة التي تصيب أمثاله، أنه حينما كان ضابطًا مبتدئًا في الـ"كي جي بي"، استطاعت أميركا أن تخدع نظام أسياده الشمولي الفاسد

حينما عُرض الجزء الأول عام 1977، كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من جهة، والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، على أشدّها في جميع المجالات. وهنا استغل الرئيس الأمريكي والممثل السابق رونالد ريغان، الذي كان يعي قوة صناعة هوليوود، شعبية الفيلم لتعزيز خطابه المناهض للسوفييت وإنهاء الحرب الباردة، باستعارة اسمه وإطلاقه على خطة دفاع إستراتيجية أعلن عنها، وكان يُفترض أن تتبنى إنشاء نظام فضائي مضاد للصواريخ، تبيّن فيما بعد أنه خيالي ولا وجود له على أرض الواقع. كان الغرض منه خداع السوفييت وإثارة ارتيابهم ودفعهم لإنفاق المليارات على الصناعة العسكرية، ما أنهك اقتصادهم، وضاعف الفساد الذي كان متفشيًا في أغلب مؤسساتهم، والذي حاول الرئيس الراحل غورباتشوف إصلاحه بالبروسترويكا، لكن حجم الفساد كان أكبر بكثير من إصلاحاته ونواياه الحسنة.

تصعيد ريغان لسباق التسلّح إعلاميًّا بالتزامن مع الفيلم، والذي أخذه الاتحاد السوفيتي على محمل الجد كتحدٍّ مصيري، أنفق عليه المليارات، وكان عاملًا أساسيًّا في إنهاكه وإنهاء كذبته التي امتدّت لعقود. فأحداث الفيلم التي تدور حول صراع بين تركيبة ليبرالية تدعو للحرية والديمقراطية والتنوع، وأخرى قمعية استبدادية تسعى للهيمنة على الفكر والثقافة والاقتصاد، وطبيعة الصراع الذي كان قائمًا بين الأمريكيين والسوفيت، أعطت للفيلم غموضًا سهّل تفسيره وفق نظرية المؤامرة، التي كان الاتحاد السوفيتي مسكونًا بها ويوظّفها لتضليل جمهوره. الروس الوحيدون الذين سُمح لهم بمشاهدة الأفلام الأجنبية آنذاك، وهم المسؤولون السوفيت، فهموا رسالته بمعنى أن لوقا، هان، ليا وأصدقائهم من أبطال الفيلم يمثّلون الأمريكيين، بينما دارث فيدر وجنوده يمثّلون السوفيت، وعزّز هذا التصوّر التوصيفات التي أطلقتها الصحافة السوفيتية على الفيلم.

حينما عُرض الجزء الأول عام 1977 كانت الحرب الباردة على أشدّها فاستغل ريغان شعبية الفيلم لإطلاق خطة دفاعية وهمية أربكت السوفيت وأرهقت اقتصادهم حتى الانهيار

لكن يبدو أن بوتين قد نسي، في غمرة انتشائه بهلوسات جنون العظمة التي تصيب أمثاله، أنه حينما كان ضابطًا مبتدئًا في الـ”كي جي بي”، استطاعت أميركا أن تخدع نظام أسياده الشمولي الفاسد، الذي كان يحتل نصف دول العالم عبر عملائه من حكّامها وشعوبها، وأنهكته اقتصاديًّا وأسقطته ببروباغندا وهمية، مستغلّة هوسه بالهيمنة والتسلّط، بأن روّجت لتبنّيها فكرة فيلم هوليوودي عظيم كـ”حرب النجوم”، كان فيه بعض السياسة إلى جانب الفن. هو كسلسلة أفلام أمتع الملايين، لكنه كفكرة أسقط إحدى أعتى الدكتاتوريات التي عرفها التاريخ. لكن أمثال بوتين لا يتعلّمون من دروس التاريخ، مثلهم مثل هتلر أو صدام الذين دمّروا بلدانهم بسياساتهم الحمقاء التي لا تخضع لعقل أو منطق، لأنهم مسكونون بعُقد نقص التسلّط وهلوسات جنون العظمة التي تعزلهم عن رؤية الواقع بشكل صحيح. لذا يريد أن يناطح أميركا والغرب بدبّابات متهالكة ومجاميع مرتزقة من كوريا الشمالية والعراق وأفريقيا، بعد أن انهارت الروح المعنوية لجيشه لعدم قناعته بالحرب، ونقص العتاد والمؤونة. ويحلم أن يصبح قطبًا في مواجهة أميركا، رغم أنه لم يتمكّن حينها سوى من إقناع أربع دول فقط بالأمم المتحدة صوّتت لصالح ضمّه للأراضي التي احتلها من أوكرانيا، هي سوريا ونيكاراغوا وفنزويلا وكوريا الشمالية، مقابل مئات الدول التي صوّتت ضد الضم، وعشرات امتنعت عن التصويت، ومنها من كان يُظن أنها حليفة له، كالصين وإيران والهند.

عُرض “حرب النجوم” في روسيا أول مرة على نطاق واسع في صيف 1990، وكان إقبال المواطنين الروس عليه كبيرًا، لأنه من أوائل العروض الكبيرة للسينما الغربية في الاتحاد السوفيتي. يومها عرف الروس هشاشة النظام الذي حكمهم لعقود بالحديد والنار، بعد أن شاهدوا بساطة فكرة الفيلم الذي كان من أبرز أدوات وأسباب انهياره. فلو لم يكن ذلك النظام يعرف سوءه وشرّه، لما أخذ الأمر بشكل شخصي كمن على رأسه بطحة، وأنفق مليارات لصنع الأسلحة بدلًا من إنفاقها على إصلاح البنى التحتية المهترئة لجمهورياته، وعلى رفاهية شعوبها التي كانت غارقة في الفقر والحرمان. فهذا ما كان سيحميه من السقوط، لا العكس الذي تسبب بسقوطه.

من الطرائف التي تُظهر ربط شخصيات الفيلم الشريرة برموز النظام الشيوعي، في أذهان مواطني الدول التي كانت تحت سطوته، ما حدث بعد إصدار الرئيس الأوكراني السابق عام 2015 مرسومًا يدعو لإزالة جميع معالم وأسماء الحقبة الشيوعية، إذ قدّم أحد الفنانين يُدعى ألكسندر ميلوف مقترحًا لتحويل تمثال لينين في مدينة أوديسا إلى تمثال لدارث فيدر، وقد تمّت الموافقة على مقترحه، وقام بتنفيذه بنفسه فعلًا!

6