فاتورة غزة الضخمة… مَن سيغامر بدفعها
تقف دول الخليج اليوم أمام لحظة فارقة تتجاوز الحسابات الإنسانية المعلنة، فالمطالب الإقليمية والدولية تتصاعد لتتحمل هذه الدول العبء الأكبر في إعادة إعمار قطاع غزة، رغم أنها لم تكن طرفًا مباشرًا في الصراع الذي دمّر البنية التحتية هناك. خلف شعارات الواجب الإنساني تختبئ مصالح معقدة وصفقات سياسية تثير الشكوك حول النوايا الحقيقية. الحديث عن المساعدات لا يتوقف عند حدود الدعم الإغاثي الطارئ، بل يمتد إلى استثمارات ضخمة في بيئة لا تزال خاضعة لسيطرة حركة حماس، والتقديرات تشير إلى تكلفة تتجاوز السبعين مليار دولار، ومشروع إعمار قد يمتد ثلاثة عقود كاملة.
الحقيقة أن السوابق لا تبشّر بخير، فقد كشفت تقارير الأمم المتحدة عام 2023 أن ما يزيد على سبعة مليارات دولار صُرفت لغزة منذ عام 2006، بينها مليارا دولار قدمتها دول الخليج. الأموال وُجهت لبناء مدارس ومستشفيات لكنها تحولت في غالبيتها إلى قنوات غير مشروعة، حيث صادرت حماس معظمها لصالح مشاريعها العسكرية، أما الجزء القليل الذي صُرف على العمران فقد خدم نخبة الحركة وقياداتها، بينما بقي عامة الفلسطينيين في ظروف قاسية لا تختلف كثيرًا عن الماضي.
الأموال والمساعدات الخليجية المخصصة للبنية المدنية تحولت إلى شبكة أنفاق عسكرية تجاوز طولها 500 كيلومتر، بتكلفة تقارب المليار دولار. وبحسب تقارير أوروبية وأممية، استولت حماس على نحو 40 بالمئة من المساعدات الدولية واستخدمتها في شراء الأسلحة وتصنيع الصواريخ، فيما وثّقت الأمم المتحدة اختلاس 350 مليون دولار خلال عامين فقط. كل ذلك جرى بينما كان سكان القطاع يعانون من الجوع وانعدام الخدمات الأساسية.
السؤال الجوهري من يضمن ألا يتكرر هذا السيناريو؟ السيطرة بيد حماس والإدارة المدنية منهارة والحل السياسي غائب وإعادة الإعمار دون ضمانات صارمة مغامرة مكلفة قد تتحول إلى فخ طويل الأمد
منظمة الشفافية الدولية صنّفت غزة تحت حكم حماس عام 2022 ضمن أكثر المناطق فسادًا في العالم، وفي عام 2018 وحده اختفى 180 مليون دولار من المساعدات، بحسب البنك الدولي. وإذا كانت هذه النتائج قد تحققت في ظل دعم محدود، فكيف ستكون الحال عندما تصل المبالغ إلى عشرات المليارات؟ إن احتمالات الاختلاس وإعادة تدوير الأموال في مسارات الإرهاب ليست مجرد هواجس، بل حقائق موثقة.
السؤال الجوهري اليوم: من يضمن ألا يتكرر هذا السيناريو؟ السيطرة ما زالت بيد حماس، والإدارة المدنية في حالة انهيار، وآفاق الحل السياسي لا تلوح في الأفق. إعادة الإعمار عبر قنوات تقليدية دون ضمانات رقابية صارمة تُعد مغامرة مكلفة. ففاتورة الإعمار الضخمة قد تتحول إلى فخ اقتصادي وسياسي طويل الأمد، يدفع أجيال من أبناء الخليج ثمنه دون مقابل حقيقي للفلسطيني العادي.
هل سيكون لزامًا على دول الخليج دفع حصة كبيرة من السبعين مليار دولار في فاتورة دمار لم تكن طرفًا فيه؟ وفوق ذلك تحمل مخاطر اختلاس حماس لتلك المليارات واستخدامها في عمليات إرهابية قد تستهدف دول الخليج نفسها؟ دون أي ضمان وصول الأموال للفلسطينيين العاديين، ودون أي مصلحة استراتيجية، ومع احتمال اتهامها ظلمًا بتمويل الإرهاب؟
المفارقة الفاضحة تكمن في موقف دول إقليمية معينة ثبت بالوثائق دورها المباشر في تمويل حماس الإرهابية. كمثال واضح، إيران تفتخر علنًا بأنها ضخت في حماس 700 مليون دولار سنويًا وفق تصريحات قادة النظام وقادة الحركة، فيما دول إقليمية أخرى توفر الملاذ الآمن لقيادات حماس وتدعمها بمئات الملايين سنويًا. هذه الدول المتعددة التي تمول حماس بشكل مباشر وعلني ومستمر، ولدى بعضها عداء واضح مع دول الخليج، لم تُحاسب على دورها في دعم الإرهاب. فلماذا يُطلب من دول الخليج، التي وقعت ضحية لاختلاس حماس، أن تدفع جزءًا ضخمًا من فاتورة السبعين مليار دولار؟
المطلوب ليس الانكفاء عن الدور الإقليمي، بل التعامل بعقلانية وحكمة. فالمساعدات الإنسانية الطارئة المباشرة للمدنيين عبر قنوات دولية محايدة واجب أخلاقي، أما الاستثمارات الضخمة القابلة للاختلاس فمغامرة محفوفة بالمخاطر تحتاج ضمانات صلبة، من ضمنها انتهاء سيطرة حماس الكاملة على القطاع، وهو أمر مشكوك فيه، بالإضافة إلى قيام سلطة منتخبة شفافة، وآليات رقابية دولية فعالة على كل دولار، واستقرار أمني حقيقي لا يقل عن عشر سنوات، ومحاسبة جنائية لمن اختلس المساعدات السابقة.
الموقف واضح ولا مواربة فيه: لا أموال لغزة، ولا مليارات لإعادة الإعمار، ولا استثمارات خليجية ضخمة طالما بقيت حماس مسيطرة على القطاع.