جيهان محمد تهمس بمفردات الطبيعة المتناغمة

لوحات مغرية تبوح بأسرار الكون والإنسان.
الخميس 2025/08/07
رسامة تقتنص المشهد اللائق

الطبيعة معجزة غنية بالألوان والأشكال المتباينة والمتناغمة، ذلك ما أدركه الكثير من الفنانين التشكيليين ومن بينهم المصرية جيهان محمد التي رأت في الطبيعة جمالا يمكن أن تعيد خلقه على أسطح لوحاتها، كاشفة عن موهبة كبيرة وتجربة فنية مختلفة عن السائد، حيث تضع أمام المتفرج أعمالا تستفز مخيلته وقدرته على التفكير والتحليل عبر تأمله مشاهد حياتية متنوعة.

عرفت الفنون التشكيلية ازدهارا ملحوظا في مصر وسائر الدول العربية، وقد ساهم في ذلك الانفتاح الذي شهده عصرنا الحديث بفضل الوسائل التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي التي قربت بين الفنانين والفنانات ومكنتهم من تبادل تجاربهم، علاوة على فتح المجال للكثيرين في حضور ملتقيات ومهرجانات تتعلق بالفن التشكيلي.

كان هذا الازدهار عاما شمل كل أنواع الفن التشكيلي من الفنون التطبيقية كالرسم، النحت، فن الخط، العمارة، التصوير، التصميم، الفسيفساء، وفنون الوسائط المتعددة، وبرز في مصر فنانون وفنانات أحدثوا تراكما متنوع المعطيات يستحق الدراسة والتأمل قصد الوقوف على عناصر الخصوصية والفرادة فيه.

ومن بين فنانات مصر، الفنانة جيهان محمد الحاصلة على بكالوريوس تربية فنية جامعة حلوان 2002، وهي علاوة على ذلك عضو نقابة الفنانين التشكيليين المصرية وعضو جمعية التشكيليين السعودية، وقد عملت معلمة تربية فنية بمعاهد الأزهر الشريف، ومعلمة بمدرسة أهلية بجدة بالمملكة العربية السعودية وشاركت بأعمالها الفنية المتنوعة بمعارض جماعية كثيرة.

◄ عناصر الطبيعة أيقونات فنية

لقد كانت الطبيعة بالنسبة إلى الفنان المصدر الأول للإبداع والإلهام الفني؛ فمنها يستوحي المشاهد والخامات، وهي المتغير المؤثر الأول، وقد تعامل الفنان مع طبيعته المحيطة منذ فجر الإنسانية؛ فكان التعبير الفني هو اللغة المباشرة للتعبير عن الأحداث اليومية التي يمر بها. وكانت رسوم الكهوف التي اكُتشف العديد منها في أوروبا وأفريقيا خير دليل على هذا التواصل مع الطبيعة.

لقد استخدم الفنان الخامات الطبيعية المتاحة للرسم على أسطح الكهوف مثل الأكاسيد الطبيعية المستخلصة من الأحجار ودماء الحيوانات التي تم اصطيادها. ومع التطور أصبح الإنسان يصور مشاهده اليومية، ولكن اختلفت الأسطح والخامات حتى إنه مع مرور الزمن ابتعد عن طبيعته وعن الخامات الطبيعية، وأصبحت كل الخامات مصنعة.

ويبدو أن الفنانة جيهان محمد تحب عناصر الطبيعة وتجعلها أيقونات لأعمالها التشكيلية على غرار الكثير من المبدعين والمبدعات الذين يجدون ضالتهم بين أحضان الطبيعة باعتبارها فضاء للإلهام وعنصرا جماليا يوحي بالكثير.

في لوحاتها تبدو الطبيعة ساكنة تهمس للرائي ببعض أسرارها التي تدعو إلى التساؤل الجامع بين الأمس واليوم وما يليهما، ويغلب عليها نفس اللون الجامع بين الحار والبارد بشكل توفيقي رصين، وغالبيتها يأتي مضببا ضبابية من قبيل الغموض المباح في فن الشعر، فهي لا تقدم لوحاتها منفتحة انفتاحا لونيا محددا بل تعمل على صياغة ألوانها عبر عمليات يتداخل فيها الجانب النفسي الشعوري والجانب الجمالي الذي تميل إليه، ويعد هذا عاملا جعل لوحاتها من حيث التركيب واللون متشابهة تعكس بصمتها الخاصة في عالم التشكيل.

ولأن الطبيعة منبع للاستيحاء والاستلهام، فإن الفنانة تمتح منها مادة أعمالها المتنوعة والمتجانسة في ذات الوقت من حيث الأدوات والتقنيات والأسلوب الذي تستخدمه الفنانة في إنجاز أعمالها.

لوحاتها عن الطبيعة توحي بالكثير، والمتأمل فيها يشعر بسيادتها في عالم الإنسان بأشجارها وتضاريسها المتنوعة التي تقدم للإنسان ذكريات عن فضاءات متشابهة زارها أو رآها قبلا، فهي تقدم تنوعات لمناظر الطبيعة تقديما انطباعيا، تعتمد فيه على الحشد اللوني الذي تعنى بدرجاته اللونية بشكل يريح عين المشاهد وهو يرى انسجامها الكلي الذي لا شرخ يشق إيقاعه المتكامل على أديم اللوحات.

ويبدو بذلك أن الطبيعة ملاذ للفنانة جيهان محمد ـ كغيرها من المبدعين في الأدب ـ  تبوح إليها بهواجسها وآمالها وأحلامها، تجعلها منفذا لتفريغ الطاقة الإبداعية وتشاركها مع غيرها من الجمهور.

إن التقارب والتشابه بين لوحات الفنانة يعتبر دليلا على تمكنها من اختيار فني أسلوبي يحقق لها خصوصيتها الفنية والإبداعية.

لقد تعالق الفن والطبيعة تعالقا تفاعليا انتفاعيا، فالطبيعة فضاء للإنسان وما ينتفع به من هواء وماء وطعام، لذا نجد في فوهات الكهوف وعلى ظهور الصخور رسوما للشجر والحيوانات في علاقتها بالإنسان، هذه العلاقة التي يطبعها الأخذ والعطاء وسمت أعمال الفنانين في كل بقاع العالم بإيقاعاتها وحالاتها اليومية والفصلية، ومن هذه العلاقة يستنبط المبدعون والمبدعات كثيرا من التعبيرات الوجدانية الشخصية والمحكومة بالوعي الجمعي.

وانطلاقا من هذه الحيثيات فإن جيهان محمد كغيرها من المبدعين المصريين وغيرهم من المبدعين في العالم تدلي بدلوها في فضاء الطبيعة الفسيح المتنوع الذي يشي بأسرار الكون والإنسان بكل ما يعتريها من السكينة والاضطراب والصفاء والكدر، ففي أعمالها الفنية روعة الشجر والجبل والجدول الرقراق، والطريق الممتد نحو الأفق الجميل، والمعمار المحاط بالأعشاب والورد والزهر. كل ذلك يضفي على هذه الأعمال ديناميكية ساحرة للقلب والعين من قبل عشاق الطبيعة في سياج الأعمال الفنية المغرية للمشاهدة.

ويبدو أن الفنانة تنتقي المشهد اللائق من حيث المنظور وجمالية الملمح الذي تتصور بروزه ووضعيته المرتقبة في عملها الفني قبل تحققه الفعلي.

وهي من هذا المنطلق تكون عميقة الرؤيا للأشياء في علاقتها بالمجال التشكيلي، وتمتلك إمكانية التجديد لمنجزها الإبداعي بتجدد الأزمنة والأمكنة التي ترتادها، وهي بذلك جديرة بالمساهمة في إثراء التجربة التشكيلية في مصر وفي كل بلدان الوطن العربي.

14