جولة تركية أخرى في معركة معقدة لتحسين الاقتصاد
وسط تحديات متزايدة وتقلّبات داخلية وخارجية، تخوض تركيا جولة جديدة في مسارها الاقتصادي المعقّد، في محاولة لاستعادة الثقة وتحقيق الاستقرار. وما بين سياسة نقدية مشددة وإصلاحات هيكلية مؤجلة، تجد الحكومة نفسها أمام موازنة دقيقة بين تهدئة التضخم وتعزيز النمو، لاحتواء التذمر داخل الأوساط الاستثمارية والشعبية.
أنقرة – أجرت تركيا مراجعةً جذرية لاقتصادها الذي يعاني من كثرة الضغوط رغم مكابرة المسؤولين بأنهم قادرون على السيطرة على الوضع المتأزم، مما يشير إلى تحول في سياساتها يُعطي الأولوية لاستقرار الأسعار على النمو السريع.
ويتوقع البرنامج، الذي كُشف عنه الأحد الماضي، نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.3 في المئة في عام 2025، وهو أقل من هدف النمو البالغ 4 في المئة الذي حُدّد قبل عام. كما خُفّضت توقعات عام 2026 إلى 3.8 في المئة مقارنةً مع 4.5 في المئة السابقة.
وتأتي هذه التعديلات في الوقت الذي يُكافح فيه صانعو السياسات لمواجهة التضخم الذي يتجاوز ستة أضعاف الهدف الرسمي البالغ 5 في المئة، مما يُجبرهم على تحقيق توازن بين خفض الأسعار والحفاظ على اقتصاد البلاد البالغ 1.4 تريليون دولار بعيدًا عن الركود.
وأعلن نائب الرئيس جودت يلماز الاثنين، خلال مؤتمر صحفي عقده بالمجمع الرئاسي في أنقرة، بحضور وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، ومحافظ البنك المركزي فاتح كراهان ومسؤولين آخرين، تفاصيل البرنامج الذي يمتد بين 2026 إلى 2028.
وأكد يلماز أن الاقتصاد التركي يحافظ على مظهر متوازن رغم استمرار مكافحة التضخم عالميًا وتصاعد التوترات الجيوسياسية.
وقال إن “السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومة في العامين الماضيين ساهمت في رفع الاحتياطيات الدولية لتركيا إلى “مستويات قياسية تاريخية”، مما عزز الثقة بالاقتصاد.
وأوضح أن التحسن المتوقع في ميزان الحساب الجاري بفضل البرنامج الاقتصادي متوسط المدى، سيقلل بشكل كبير من حاجة تركيا للتمويل الخارجي.
ويُعدّ النمو المُعدّل أقل من متوسط معدل النمو البالغ 5 في المئة الذي سجلته تركيا على مدى العقدين الماضيين. في حين أن هذا التقدير أعلى قليلا من نسبة 3.5 في المئة، وفقاً للخبراء، إلا أنه يُبرز انحرافاً كبيراً عن الطموحات السابقة.
وأفاد يلماز بأن البرنامج الاقتصادي متوسط المدى يستهدف أن يقترب الناتج المحلي الإجمالي للمرة الأولى من 1.9 تريليون دولار، مع ارتفاع دخل الفرد إلى 21 ألف دولار.
وبحسب البرنامج الجديد فمن المتوقع أن تصل إيرادات السياحة إلى 75 مليار دولار، ويُخفض معدل البطالة إلى أقل من 8 في المئة.
وتبدو الحكومة الآن مستعدة للتضحية ببعض زخم النمو لكبح جماح التضخم. وهذا يُشير إلى تغيير في السياسات التي اعتمدت سابقاً على الطلب الاستهلاكي القوي والائتمان الرخيص لدفع عجلة التوسع.
وبدأ البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة في يوليو الماضي، وهي خطوة من المتوقع أن تستمر تدريجياً، لكن أي تخفيف سيبقى حذراً لمنع تفاقم الضغوط التضخمية.
وخفض المركزي الفائدة بأكثر من المتوقع، من 46 في المئة إلى 43 في المئة، في أول خطوة تيسيرية خلال أربعة أشهر، مشيراً حينها إلى أن المزيد من الخفض في الطريق.
وأجرى البرنامج الجديد متوسط الأجل تعديلاً كبيراً على توقعات التضخم. ومن المتوقع الآن أن تُنهي أسعار المستهلك خلال عام 2025 عند 28.5 في المئة، مقارنةً بتقدير 17.5 في المئة الصادر العام الماضي.
أبرز أهداف البرنامج الجديد
- 75 مليار دولار الإيرادات المستهدفة من قطاع السياحة
- 28.5 في المئة التضخم في 2025 و16 في المئة عام 2026
- 21 ألف دولار نصيب دخل الفرد بنهاية البرنامج العام 2028
- 8 في المئة أو أقل معدل نسبة البطالة المستهدف
- 3.6 في المئة نسبة عجز الميزانية من الناتج الإجمالي في 2025
- 3.3 في المئة نسبة نمو 2025 نزولا من توقعات 4 في المئة
- 1.9 تريليون دولار حجم الناتج المحلي الإجمالي المستهدف
ومن المتوقع أن ينخفض التضخم إلى 16 في المئة بنهاية العام المقبل، بعد أن كان متوقعاً سابقاً عند 9.7 في المئة، ما يعني أن ثمة تحديات لا تزال جاثمة أم تجميل المؤشرات الكلية.
وتتوافق التوجيهات الجديدة بشكل عام مع توقعات البنك المركزي الصادرة في أغسطس الماضي، والتي حددت معدل التضخم بنهاية عام 2025 في نطاق يتراوح بين 25 و29 في المئة.
وفي حين يشير هذا إلى توافق آراء صانعي السياسات، فإنه يُبرز أيضًا استمرار نمو الأسعار على الرغم من الإجراءات النقدية والمالية المشددة. ولا تزال توقعات الأسر مرتفعة، ولم يتباطأ سلوك الإنفاق بالقدر الذي توقعته السلطات.
وإلى جانب تعديلات النمو والتضخم، رفعت تركيا توقعاتها لعجز الموازنة. ومن المتوقع الآن أن يبلغ العجز 3.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، أي أعلى بنصف نقطة مئوية من التوقعات السابقة.
ويعكس اتساع الفجوة زيادة الإنفاق الحكومي، لاسيما على جهود إعادة الإعمار في جنوب شرق البلاد بعد الزلازل المدمرة التي ضربت البلاد عام 2023.
وفرض شيمشك ضرائب جديدة على الأسر والشركات لتلبية الاحتياجات المالية المتزايدة. وبينما تهدف هذه الإجراءات إلى استقرار المالية العامة، فإنها تُضيف أيضًا ضغوطًا على المستهلكين والشركات التي تُعاني بالفعل من ارتفاع تكاليف الاقتراض.
وأدت إستراتيجية الحكومة لاستعادة التوازن الاقتصادي إلى وضع الشركات والأسر في ظروف صعبة. وأفادت الشركات بأن أسعار الفائدة المرتفعة قد أدت إلى تآكل الأرباح بشكل كبير، مما حدّ من القدرة الاستثمارية.
وفي الوقت نفسه، لا تزال الأسر تتوقع ارتفاع التضخم، مما يُبقي على استهلاك أعلى من المتوقع ويُعقّد مهمة صانعي السياسات في إبطاء الطلب.
وتُظهر هذه الدورة التحدي الذي تواجهه أنقرة، إذ أن تخفيف الشروط النقدية بسرعة كبيرة قد يُعيد إشعال فتيل نمو الأسعار، لكن إبقاء تكاليف الاقتراض مرتفعة يُخاطر بخنق الاستثمار وتأجيج السخط.
لكنّ حكماً قضائياً بعزل إدارة إسطنبول التابعة لحزب الشعب الجمهوري، أبرز أحزاب المعارضة، أثار قلق المستثمرين.
وسبقت هذا القرار سلسلة من القضايا القانونية المرتبطة بالمعارضة، وتزامن مع صدور تقارير اقتصادية مخيبة، وهو ما دفع بنوك وول ستريت إلى ترجيح تباطؤ وتيرة خفض الفائدة.
ومع تقليص أهداف النمو ورفع توقعات التضخم، تدخل تركيا مرحلة يتم فيها تركيز السياسات بقوة على الاستقرار، حتى لو كان ذلك يعني الخروج عن سنوات من التوسع السريع.
وعلقت الحكومة مؤخرا برنامج حماية الودائع من انخفاض قيمة الليرة (كي.كي.أم)، والذي يُقدر أنه كلف 60 مليار دولار منذ إطلاقه في 2021، في خطوة أخرى للتخلي عن السياسات الاقتصادية غير التقليدية التي تسببت في أزمة الليرة قبل عدة سنوات.