الهوية الوطنية السورية الجامعة: ملاذ آمن من العقوبات

خارطة الطريق تبدأ بتشكيل لجنة وطنية عليا تضم ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني لصياغة رؤية وطنية للتعافي وإطلاق برنامج إصلاح تدريجي يركز على الشفافية ومكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان.
الثلاثاء 2025/09/23
التحركات الدبلوماسية وحدها لا تكفي

تمرّ سوريا اليوم بمرحلة مفصلية تتشابك فيها التحديات الداخلية مع الضغوط الخارجية، في ظل فشل الجهود الدبلوماسية حتى الآن في إحداث اختراق حقيقي على صعيد رفع العقوبات الأميركية والدولية. فقد تداخلت العوامل السياسية والأمنية والحقوقية، ووقفت قوى دولية فاعلة، في مقدمتها الولايات المتحدة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية، وراء شروط صارمة تجعل من رفع العقوبات مسألة معقدة ومؤجلة. وفي مواجهة هذا الواقع، يصبح الحوار العقلاني والشفاف مع المجتمع الدولي مرهونًا قبل كل شيء بقدرة السوريين على بناء موقف داخلي موحد يستند إلى هوية وطنية جامعة، تكون المدخل الأساس لإعادة بناء الثقة داخليًا وخارجيًا، ولإطلاق مسار التعافي الوطني الشامل.

لقد واجهت الدبلوماسية السورية، ممثلة بوزير الخارجية وفريقه، تحالفًا قويًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، تدعمه شخصيات نافذة مثل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والديمقراطي كرس فان هولر، إلى جانب مؤسسات مالية كبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا التحالف نقل العقوبات من كونها موجهة ضد النظام السابق إلى أن تشمل الحكومة الجديدة برئاسة الشرع، مستندًا إلى أن قانون قيصر يمثل إطارًا تشريعيًا لحماية المدنيين السوريين، وليس موجهاً ضد نظام بعينه. وقد أكد السيناتور ديف ماكورميك أن رفع العقوبات مرهون بتحقيق شروط محددة، وأن الزيارات والتحركات الدبلوماسية وحدها لا تكفي ما لم يتم الالتزام بهذه الشروط على أرض الواقع.

الشروط الأميركية التي وُضعت لرفع العقوبات جاءت واضحة ومفصلة، إذ اشترطت إنهاء نشاط تنظيم داعش والجماعات الإرهابية الأخرى، وضمان حماية حقوق الإنسان والأقليات الدينية والعرقية وتمثيلهم في الحكومة، والحفاظ على علاقات مستقرة مع دول الجوار بما في ذلك إسرائيل ومنع أي تهديدات تمس أمن المنطقة، ووقف أي دعم أو إيواء لجماعات أو أفراد مصنفين إرهابيين يهددون أمن الولايات المتحدة أو حلفائها. كما تضمنت المطالب إنهاء الوجود العسكري الأجنبي أو الشروع في إزالته، ومحاسبة الأفراد والكيانات المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة منذ ديسمبر 2024، إضافة إلى إخضاع الحكومة السورية لرقابة دورية صارمة عبر تقارير تقييم تصدر كل 180 يومًا للتأكد من الالتزام بالشروط الموضوعة.

الخروج من نفق العقوبات والانطلاق نحو مسار التعافي لن يكون رهناً بالتحركات الدبلوماسية وحدها، بل بتضافر جهود الدولة والمجتمع لإعادة بناء الهوية الوطنية السورية الجامعة، وصياغة مشروع وطني شامل يلتزم بالإصلاح الداخلي

لكن التحديات الداخلية لم تكن أقل وطأة من الضغوط الخارجية. فقد أدى سوء التقدير السياسي إلى استعجال فتح ملف العقوبات دون تهيئة بيئة داخلية قادرة على الاستجابة لشروط المجتمع الدولي. كما أن تشتت الموقف الداخلي وضعف الثقة بين المجتمع والدولة، وتعدد الخطابات المتناقضة الصادرة عن النخب السياسية والإعلامية، كلها عوامل ساهمت في تعثر المسار. والأهم من ذلك غياب الورقة الوطنية الجامعة، أي المشروع الوطني الشامل الذي يمثل كل السوريين ويعبر عن إرادتهم الجماعية في التغيير والبناء.

إن رفع العقوبات لن يتحقق بجهد حكومي صرف ولا بتحركات دبلوماسية منعزلة، بل عبر بناء هوية وطنية جامعة تعيد صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع. هذه الهوية لا يمكن أن تتبلور إلا من خلال إعادة بناء الثقة الداخلية عبر مصارحة وطنية شاملة، والاعتراف بالأخطاء، والانفتاح على قوى المجتمع المدني، وتوحيد الخطاب السياسي والإعلامي بعيدًا عن الشعبوية والمزايدات، بما يسمح بصياغة رسالة عقلانية متزنة للمجتمع الدولي. كما أن الإصلاح الداخلي الحقيقي يظل شرطًا لا غنى عنه، إذ يتعين معالجة قضايا الحوكمة والعدالة الانتقالية والتنمية المستدامة باعتبارها ركائز لأي مسار تفاوضي ناجح.

خارطة الطريق التي يمكن أن تفتح الباب أمام هذا التحول تبدأ بتشكيل لجنة وطنية عليا تضم ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني لصياغة رؤية وطنية للتعافي، وإطلاق برنامج إصلاح داخلي تدريجي يركز على الشفافية ومكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان، وبناء شراكات إقليمية ودولية على أساس المصالح المشتركة لا على ردود الأفعال أو الاصطفافات المؤقتة. كما أن تبني دبلوماسية واقعية ترتكز إلى أوراق قوة داخلية، لا إلى رهانات على الخارج وحده، يمثل شرطًا أساسيًا لاستعادة زمام المبادرة.

إن الخروج من نفق العقوبات والانطلاق نحو مسار التعافي لن يكون رهناً بالتحركات الدبلوماسية وحدها، بل بتضافر جهود الدولة والمجتمع لإعادة بناء الهوية الوطنية السورية الجامعة، وصياغة مشروع وطني شامل يلتزم بالإصلاح الداخلي ويستجيب لمتطلبات المجتمع الدولي، من دون أن يفرط بالسيادة أو يتنازل عن الحقوق الوطنية.

6