الليل في برلين لم يعد كما كان

المدينة التي كانت تُعرف بـ"عاصمة السهر" باتت اليوم تكافح للحفاظ على نبضها الليلي، في مواجهة ضغوط اقتصادية واجتماعية متزايدة.
الخميس 2025/10/23
أنقذوا السهر

برلين، عاصمة السهر، تواجه أزمة تهدد نواديها الليلية بسبب ارتفاع التكاليف وتغير الأذواق. نوادٍ مثل "ريناتي" و"شْفوتس" تكافح للبقاء وسط تراجع الإيرادات. المدينة التي كانت رمزًا للحرية الليلية، تحاول إنقاذ روحها من الانطفاء.

برلين - منذ سقوط جدار برلين عام 1989 تحوّلت العاصمة الألمانية إلى ما يشبه أسطورة ليلية، مدينة لا تنام، تتنفس الموسيقى وتعيش على إيقاع التكنو والرقص حتى ساعات الفجر الأولى. كانت النوادي الليلية في برلين أكثر من مجرد أماكن للترفيه، بل فضاءات للحرية والتجريب، منصات ثقافية تحتضن كل ما هو مختلف، ومختبرات اجتماعية تعيد تعريف الهوية والاندماج والتمرد.

لكن هذه المدينة التي كانت تُعرف بـ"عاصمة السهر" باتت اليوم تكافح للحفاظ على نبضها الليلي، في مواجهة ضغوط اقتصادية واجتماعية متزايدة. فارتفاع أسعار الإيجارات، وتغير أذواق الشباب، وتراجع السياحة الليلية، كلها عوامل تهدد بإطفاء أضواء النوادي واحدا تلو الآخر.

في نادي “ريناتي”، الواقع في مجمع سكني خافت الإضاءة قرب نهر شبريه، لا تزال الأجواء مشتعلة. الموسيقى تنبعث من الزوايا، والأجساد تتمايل في متاهة من الغرف والممرات، والأنوار الخافتة ترسم ظلالًا على الجدران العارية. احتفل النادي مؤخرًا بعيده الثامن عشر، لكن الاحتفال كان مشوبًا بالقلق، إذ قد يكون الأخير، مع اقتراب نهاية عقد الإيجار.

يقول السائح البريطاني أوسكار ليستر (30 عامًا) “من المحزن أن تكون هذه على الأرجح آخر مرة أزور فيها ريناتي. هذا المكان ليس مجرد نادٍ، بل تجربة كاملة.” أما مايكه شوينبيرغ، وهي من سكان برلين، فتعبّر عن حنينها قائلة “كل النوادي التي كنت أعرفها عندما بلغت سن الرشد تغلق أبوابها. يبدو أن ثقافة السهر في برلين بدأت تتلاشى.”

في برلين الليل ليس مجرد وقت، بل حالة ذهنية، أسلوب حياة، وطقس اجتماعي

في التسعينات كانت برلين مدينة الفرص الليلية، حيث تحوّلت المصانع المهجورة إلى نوادٍ، والمستودعات إلى مسارح للرقص. كانت تلك النوادي ملاذًا للثقافات المضادة، ومساحات آمنة للمهمّشين، ومراكز جذب لعشاق الموسيقى من كل أنحاء العالم. لكن مع مرور الوقت تغيّرت المدينة. مشاريع التحديث العمراني، وارتفاع أسعار العقارات، وتحوّل بعض الأحياء إلى مناطق سكنية فاخرة، كلها ساهمت في تقليص المساحات الحرة التي كانت تحتضن هذه الحياة الليلية.

ثم جاءت جائحة كورونا لتضرب قلب هذه الثقافة. أُغلقت النوادي لأشهر طويلة، وتوقفت الحفلات، وتراكمت الديون. ومع عودة الحياة إلى طبيعتها، لم تعد الأمور كما كانت. ارتفعت أسعار الدخول والمشروبات، وتراجع عدد الزوار، خاصة مع انخفاض الرحلات الجوية الرخيصة التي كانت تجلب الآلاف من المحتفلين في عطلات نهاية الأسبوع.

تقرير لجنة النوادي في برلين أواخر العام الماضي كان صادمًا: 46 في المئة من النوادي تفكر في الإغلاق خلال 12 شهرًا، وثلثاها سجلا انخفاضًا كبيرًا في الإيرادات. النوادي التي كانت تملأ ليالي برلين بالحياة، باتت اليوم تكافح من أجل البقاء.

في التسعينات كانت برلين مدينة الفرص الليلية، حيث تحوّلت المصانع المهجورة إلى نوادٍ، والمستودعات إلى مسارح للرقص

من بين هذه النوادي يبرز اسم “شْفوتس”، الذي يُعد من أقدم وأكبر نوادي المثليين في ألمانيا، وربما في أوروبا. تقول مديرته كاتيا ياغر “منذ 2024، بدأنا نسجل عجزًا شهريًا يقارب 50 ألف يورو. الناس ما زالوا يأتون، لكنهم لم يعودوا ينفقون كما في السابق. كانوا يشربون ثلاث كؤوس أو أربعا، الآن يكتفون بواحدة.”

في يوليو الماضي اضطر النادي إلى إعلان إفلاسه، وأطلق نداءً لمجتمع الميم في المدينة: “عودوا إلى الحفلات، أنقذوا شْفوتس.” الاستجابة كانت مؤثرة، إذ جُمعت أكثر من 51 ألف يورو في حملة تبرعات، لكن التحديات لا تزال قائمة.

ويحاول النادي اليوم التكيّف مع الواقع الجديد، عبر استغلال مساحته التي تبلغ 1600 متر مربع، وتأجيرها للمناسبات الخاصة والعروض المسرحية والحفلات النهارية. لكن هذا لا يعوّض عن فقدان الجوهر: تلك الليالي الطويلة التي كانت تبدأ بعد منتصف الليل، وتمتد حتى تشرق الشمس على مدينة لا تعرف النوم.

في برلين الليل ليس مجرد وقت، بل حالة ذهنية، أسلوب حياة، وطقس اجتماعي. النوادي ليست أماكن مغلقة، بل مساحات مفتوحة للحرية والتجريب والتعبير. حين تُغلق هذه النوادي لا تُطفأ فقط أضواء الرقص، بل تُخمد أيضًا شرارات الإبداع، وتفقد المدينة جزءًا من روحها.

ومع ذلك، لا تزال هناك مقاومة. فالحفلات السرية تعود، والمبادرات المجتمعية تتكاثر، والموسيقى لا تزال تنبعث من الأزقة والمستودعات. برلين، رغم كل شيء، لا تزال تقاوم النسيان، وتحاول أن تحافظ على لقبها كعاصمة السهر، ولو على إيقاع أبطأ، ونغمة أكثر حزنًا.

في النهاية، قد تتغير الأذواق وتتبدل الأجيال، لكن ما يبقى هو الحنين إلى تلك الليالي التي كانت فيها برلين مدينة لا تُقهر، حيث كان الليل وعدًا بالحرية، والموسيقى لغة لا تحتاج إلى ترجمة.

12