الذكاء الاصطناعي: قوة حضارية أم أداة للهيمنة الرقمية
رغم ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من فوائد ملموسة في الكثير من المجالات العلمية والاقتصادية، إلا أن تأثيره على سياسات الدول، خصوصًا النامية منها، يبدو الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل. فالتحول الرقمي وعولمة قدرات الاتصال المرتبطة بالذكاء الاصطناعي أفرزا بيئة جديدة تقلّص من حرية الأفراد وتضعف انسجامهم مع الظواهر الاجتماعية التي يُفترض أن تحكمهم.
المشكلة لا تكمن في التقنية بحد ذاتها، بل في احتكار الشركات الرأسمالية العملاقة لها وتوجيهها بما يخدم مصالحها. إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة ذكية، بل تحول إلى قوة قادرة على إعادة إنتاج السلوكيات البشرية مثل التفكير والتخطيط والإبداع، ما يمنحه تأثيرًا سياسيًا واجتماعيًا واسع المدى.
منصات كبرى مثل غوغل وفيسبوك لا تكتفي بنشر المحتوى الرقمي عالميًا، بل أصبحت وسيطًا خطيرًا يمكن من خلاله التلاعب بالرأي العام عبر نشر الأخبار الكاذبة وتنظيم اجتماعات افتراضية تُستخدم أحيانًا للتأثير على الشعوب وزعزعة استقرار الدول.
ستيف جوبز: يجب أن تُحررنا التكنولوجيا لا أن تستعبدنا
التكنولوجيا ليست محايدة، بل تنسجم مع منطق الهيمنة الرأسمالية الجديدة. وانتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، رغم إمكاناته الإبداعية الهائلة، أثار مخاوف عميقة من إساءة استخدامه لتضليل المجتمعات وتوجيهها. فهو يسهّل إنتاج المعلومات المضللة على نطاق واسع، وقد يُحدث اضطرابًا يهدد استقرار الدول التي تفتقر إلى هذه التقنيات.
الأمر لا يتوقف عند التضليل، بل يمتد إلى إضعاف الاقتصادات الوطنية، وتعزيز تركّز السلطة بيد عدد محدود من شركات التكنولوجيا. ومع تفويض الحكومات والشركات المتزايد للقرارات إلى “البرمجيات”، يُمكننا القول إن “وكلاء الذكاء الاصطناعي” أصبحوا يهيمنون على العالم.
في زمن الأزمات والصراعات، كما في الحرب الإسرائيلية على غزة، برزت خطورة الذكاء الاصطناعي كأداة لطمس الحقائق وحجب الأصوات المستقلة. حيث يمكن للحكومات والشركات فرض عقوبات رقمية، وحجب محتوى، وتشويه صورة مؤسسات حقوقية وإعلامية، في إطار سياسات مقصودة للسيطرة على الرأي العام.
هذا المسار يفتح الباب أمام الاستبداد الرقمي، حيث تُستخدم تقنيات المراقبة الجماعية والذكاء الاصطناعي لتعزيز سلطة الأنظمة، وتقييد الحريات، وإضعاف المجتمعات المدنية.
يُعلّمنا التاريخ أن التفاوت الحضاري والاجتماعي المُفرط لا يُؤدي إلّا إلى مجتمعات غير مستقرة وعنيفة، بل ومُدمّرة للذات في نهاية المطاف. ويُشكّل الذكاء الاصطناعي تحديًا جوهريًا لمجتمعاتنا، وإذا غضضنا الطرف عن المخاطر، فسندفع ثمنًا باهظًا.
يُعدّ التعليم والتدريب المهني أمرًا بالغ الأهمية لإعداد القوى العاملة لعالمٍ يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي. ويتوجب تعزيز مهارات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات منذ الصغر، لتزويد الأجيال الشابة بالمهارات اللازمة للتكيف مع أسواق العمل المتغيرة.
كما يقتضي الأمر وضع أطر دولية لضمان الشفافية والرقابة على استخدامه، مع تبني سياسات تُعزز العدالة والمساواة، وتتيح للدول النامية الاستثمار في أدوات ذكية تُقوّي حضورها وتمنع تهميشها. وكما قال ستيف جوبز “يجب أن تُحررنا التكنولوجيا، لا أن تستعبدنا”.