الخطاب القرآني يستعمل القناع السردي في قصص الأنبياء العرب

هود وصالح وشعيب قصص متشابهة وأقنعة لإسقاط الحاضر على الماضي.
الأحد 2025/08/03
قصص خلقت رموزا مؤثرة (لوحة للفنان ساسان نصرانية)

يزخر النص القرآني بالكثير من القصص الملهمة والمثيرة للاهتمام، وإضافة إلى نظرة التقديس التي يكنها المسلمون لهذا الوحي الإلهي، فإن هناك مقاربات أخرى يمكننا من خلالها فهم قصص القرآن، من بينها المقاربة الأدبية، فالقصة في نهاية الأمر ضرب من الأدب، وإن كان السياق مختلفا هنا بين النص المقدس والخيال الأدبي.

لا يخفى على قارئ القرآن التفاوت الكبير جدا في التناول لقصص الأنبياء. موسى، وأنبياء بني إسرائيل عمومًا، يحضرون في متواليات سردية تمتد وتتشعب عبر سور عديدة، تتعمق في التفاصيل، وتنسج مواقف إنسانية ودرامية متراكبة. في المقابل، يظهر الأنبياء العرب في مشهد ثابت موجز يتكرر بصيغة واحدة: دعوة تتلقاها أقوامهم بالرفض، يتبعها التهديد والوعيد بالعذاب، ثم تنتهي القصة بالهلاك. لا نكاد نعرف عن هؤلاء الأنبياء سوى لحظة المواجهة، دون سياق سابق أو لاحق، كأنما قصد الوحي القرآني الاستعانة بهم بلاغيا لمهمة محددة في مشهد رمزي لعرض رسائل تتجاوز السردية الفردية لكل منهم.

سأحاول في هذا المقال قراءة هذه البنية من منظور أدبي يستند إلى مفهوم القناع السردي، وهو آلية خطابية تعتمد على إحياء شخصيات تاريخية أو أسطورية لتؤدي دورًا معاصرًا، وتُحمّل بدلالات تتجاوز زمنها. وبهذا المعنى، أتساءل: هل تحضر شخصيات الأنبياء هود وصالح وشعيب في الوحي القرآني كأقنعة رمزية يتم عبرها تمرير رسائل ترتبط بواقع النبي محمد وسياق الدعوة/ الصراع في مكة؟

وجوه وقالب واحد

تقنية القناع هي حيلة فنية يتقمّص فيها الشاعر أو الكاتب شخصية تاريخية، أو أسطورية من الموروث المشترك، ليتحدث من خلالها، ويعبّر عن أفكار أو مشاعر قد لا يستطيع الإفصاح عنها بصوته الشخصي المباشر. بهذا التقمص، يتحول النص إلى فضاء يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي، والفردي بالجمعي، مما يتيح للكاتب حرية أكبر للتعبير عن قضايا معقدة أو محرّمة.

تتمثل وظيفة القناع هنا كفعل إستراتيجي يعيد صياغة العلاقة بين النص والقارئ، ويؤسس لمستوى مغاير من التلقي. فالقناع لا يرفع صوت المؤلف فحسب، بل يعقّده، ويجعله متعدّد الأبعاد، مضمرًا حينًا، ومركّبًا حينًا آخر، مما يفتح أفقًا نقديًا واسعًا لفهم النص خارج حدود المباشرة والخطابية.

أحد النماذج الكلاسيكية لهذا التوظيف نجده في قصيدة ت. س. إليوت الأرض اليباب. هنا، يستحضر إليوت شخصية العرّاف الأعمى “تيريسياس” من الميثولوجيا اليونانية، ليمنح الأسطورة وظيفة جديدة: أن تكون شاهدة على انحلال العالم الغربي بعد الحرب العالمية الأولى. تيريسياس، الذي رآه القدماء نبيًا بصيرًا رغم عماه، يتحول في النص إلى رمز بصري نافذ، يرى ما لا يراه أهل زمانه، ويكشف زيف الحداثة المتغطرسة وسط ركام الأخلاق والمعنى.

قصص هود وصالح وشعيب تأتي لتعزيز ثقة المسلمين الأوائل بمسارهم في وجه التهديدات والتكذيب والإيذاء الذي طالهم

تجربتي الشخصية مع هذه التقنية تتجلى في روايتي “أحجية إدمون عمران المالح”، حيث جعلت من إدمون، الكاتب المغربي اليهودي، بطلًا روائيًا لا بوصفه مادة لسيرة ذاتية، بل بوصفه قناعًا يُسهم في مقاربة قضايا شائكة مثل تعقيدات الهوية المغربية في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي، إضافة إلى التداخلات الفاسدة في عالم النشر والجوائز الأدبية. لم يكن المقصود هو إعادة بناء سيرة إدمون، إنما استخدامه كمرآة تعكس التوترات البنيوية في الثقافة العربية المعاصرة، وتستدعيها داخل حوار روائي سمحت تقنية القناع بالرفع من مستوى تعقيده وانفتاحه على التأويل.

بهذا، التقنية الأسلوبية في استخدام أقنعة لإسقاط الحاضر على الماضي، تتحرر الشخصية التاريخية أو الأسطورية من قيود التوثيق، وتتحول إلى رمز، إلى حاوية تأويلية تعبّر عن الحاضر لا الماضي. إنها لا تُستدعى لأجلها، بل لأجل ما تستطيع أن تُضيئه في اللحظة الراهنة، فيحضر القناع بغرض الكشف والاقتحام، لا التخفي والهروب.

عند تأمل السرد القرآني لقصص الأنبياء المنتمين إلى الماضي العربي (هود، صالح، وشعيب) تتكشف أمام القارئ بنية سردية محكمة التماثل، إلى حدّ يبدو معه كل نبي كأنه تكرار للآخر في قالب سردي موحد. يتجاوز الأمر مستوى التشابه في المسار العام ويتعداه إلى تماثل دقيق في العبارات، والمواقف، والاستجابات، والنهايات، مما يجعل القصة وكأنها تُعاد ثلاث مرات تحت أسماء مختلفة، بجوهر واحد. ألا يذكرنا هذا بطبيعة الصراع الدائر في مكة بين النبي محمد وكفار قريش؟

تبدأ كل قصة بالتمهيد ذاته تقريبًا، جملة افتتاحية تؤطر النبي داخل جماعته، وتقدمه بوصفه أخًا لهم، لا غريبًا ولا دخيلًا، تماما كما هو النبي محمد مع أهله في مكة، وبعدها دعوة التوحيد بالصيغة نفسها.

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (الأعراف: 65).

إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (هود: 61).

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأعراف: 85).

عبر تقنية القناع يتحوّل الصراع في مكة من نزاع محلي بين النبي وقريش إلى مواجهة كبرى بين التوحيد والشرك

تتكرر بعدها ردود الفعل ذاتها من القوم، تشكك في صدقية النبي، وتنفي عنه الاصطفاء الإلهي، عبر خطاب يرتكز على التشابه البشري:

مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا (الشعراء: 154).

قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (يس: 15).

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (الأعراف: 66).

ثم يتصاعد الإنكار إلى تحدٍّ مباشر، يُطلب فيه من النبي إثبات دعوته عبر إنزال العذاب، في مشهد يتكرر بصيغ متقاربة:

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (الأعراف: 70).

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (الأحقاف: 22).

وتُختم كل قصة بالنهاية نفسها، تنقذ النبي والذين آمنوا معه، وتهلك القوم المكذبين:

فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (الأعراف: 72).

يكشف هذا التكرار المنهجي عن بناء رمزي محكم يُسخّر شخصيات الأنبياء لتأدية دور وظيفي داخل بنية خطابية محددة. كل نبي من هؤلاء يصبح تجليًا من تجليات نموذج رسالي واحد، يُستدعى لإعادة تأكيد فكرة التوحيد ورفض الوثنية، وتصوير الصراع بين الإيمان والتكذيب بوصفه ثابتًا لا يتغير. وما يبدو ظاهريا ثلاث سير نبوية مختلفة إنما هو تمثيل متكرر لصيغة رسولية واحدة، يُعاد تدويرها لتخدم غرضًا خطابيا متعلّقًا بالسياق القرآني، لا بالتاريخ الموضوعي. فالنص لا يسعى إلى التأريخ بقدر ما يهدف إلى بناء ذاكرة رمزية، تُقدّم للمتلقي العربي نماذج قريبة منه في الجغرافيا والهوية، وتُعيد طرح الصراع النبوي على أرض مألوفة، تمهيدًا لتلقي رسالة النبي محمد بوصفها الحلقة الأخيرة في سلسلة هذا الصراع المتجدد.

الدلالات الوظيفية

k

عند التمعّن في أسماء الأنبياء الثلاثة المنتسبين للقبائل العربية، البائدة، يتجلّى بوضوح أنهم يُستَحضَرون داخل النص بوصفهم رموزًا وظيفية أكثر من كونهم ذواتًا مستقلة، بصفتهم رموزا لا أشخاصا ذوي تاريخ فردي خاص. لا ينحصر أداء الأسماء في دور الهوية الشخصية الفردية بقدر ما يضيء البعد الدلالي والرمزي لشخصية النبي، فتُصبح مفتاحًا وظيفيًا يحدد دور النبي داخل البنية السردية للوحي القرآني، بوصفه رسولًا يؤدي مهمة محددة في معركة الهداية والصراع مع الكفر.

نبدأ بـ “صالح”، وهو اسم مشتق من الجذر ص-ل-ح، الذي يرتبط مفهوميًّا بالصلاح والاستقامة وتقويم الفساد. يحمل الجذر دلالة أخلاقية شديدة التركيز، تتمحور حول الفعل الإصلاحي الموجَّه إلى مجتمع معطوب أخلاقيًا أو منحرف عقديًا. صيغة فاعل التي ورد بها الاسم تُستخدم غالبًا للدلالة على الفاعل المهني أو الوظيفي، كـ: داع، ناصح، حارس، وهي صيغ ترتبط بالفعل المستمر والانخراط في مهمة. “صالح”، بهذا الاعتبار، يشير إلى هوية رمزية تحمل عبء إصلاح الخلل المجتمعي، وتصحيح مسار الجماعة التي أعرضت عن التوحيد والعدل.

أما “هود”، فاشتقاقه من الجذر هـ-و-د يُفضي إلى معانٍ تتعلّق بالعودة والميل والهدى، ومنها الفعل هادَ يهود، أي مالَ ورجع. في هذا المعنى، يصبح الاسم دالًا على فاعل يدعو إلى التوبة، ويقود قومه نحو الرجوع إلى الطريق القويم بعد انحراف. ينسجم هذا المعنى تمامًا مع الدور الذي أوكله القرآن لهود في مواجهة عاد، قوم البغي والطغيان. لكن عند التعمق في البنية اللغوية للاسم، تظهر قراءة جذورية أوسع، تضعه ضمن سياق ثقافي أقدم. يمكن تفكيك “هود” إلى جزأين: “هَـ” بوصفها أداة تعريف مستخدمة في بعض اللهجات العربية الجنوبية القديمة، كالسبئية، و”ودّ”، وهو أحد أبرز الآلهة في الجاهلية. لكن السياق الآن لا يتحمل هذا التشعب.

نصل إلى “شعيب”، الجذر ش-ع-ب يحمل طيفًا من المعاني المتصلة بالتفرّع والانقسام والتشعّب، وأحيانًا بالجمع والتوحيد ضمن “شَعْب” أو جماعة. وصيغة فُعَيْل توحي إما بالتصغير، أو بالتخصيص المحبّب، أو حتى بالتكثيف الرمزي. بهذا، قد يُفهم “شعيب” بوصفه الفرع المنتمي إلى الشعب، أو من يعيد لَمَّ ما تفرّق، أو حتى من يخرج عن الجماعة، وكلها دلالات تنسجم مع الدور الذي أدّاه في مجتمع مدين الموصوف قرآنيًا بالفساد الاقتصادي والاجتماعي.

يتيح الاسم أيضًا قراءة خطابية أكثر عمقًا، إذ يمكن أن يرتبط بالفعل “شعّب”، أي وسّع وفصّل، وهي دلالة تتّسق مع الروايات التي تصف شعيب، في الموروث الإسلامي وإن دون سند قرآني، بأنه خطيب الأنبياء.

من خلال هذا المنظور، يمكن القول إن هذه الأسماء الثلاثة تمثل طبقة رمزية في الخطاب القرآني، تُستخدم بوصفها أقنعة دلالية لتحديد أدوار رسولية داخل بنية خطابية تهدف إلى بناء ذاكرة توحيدية، وربط التجربة النبوية، المحمدية، بمحطات رمزية تُجسّد ثوابت العقيدة.  فـ “صالح” هو الإصلاح، و”هود” هو الرجوع، و”شعيب” هو التفصيل والتشعب والبيان. كل اسم مفتاحٌ لمعنى، ووظيفةٌ لسرد، وصوتٌ من أصوات الوحي التي تؤسس لحضوره في الذات والزمان معًا.

إسقاطات الواقع المكي

ما يبدو ظاهريا ثلاث سير نبوية مختلفة إنما هو تمثيل متكرر لصيغة رسولية واحدة، يُعاد تدويرها لتخدم غرضًا خطابيا

تبرز ذروة استخدام تقنية القناع في سرد القرآن لقصص الأنبياء الثلاثة: هود وصالح وشعيب، حين نلحظ أن ملامحهم وتفاصيل قصصهم تعكس بصورة كبيرة ما كان يعيشه النبي محمد في مكة. تتخطى المسألة هنا حدود التشابه العام وتصل حد التطابق الدقيق في البنية الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تحيط بكل نبي، وصولًا إلى تفاصيل الحوار والمواجهة والمكر، بما يجعلنا نتساءل: هل تعمل هذه القصص كمرايا تعكس واقع قريش، أم أن التشابه مجرد مصادفة في تكرار السنن الإلهية؟

لنأخذ على سبيل المثال قول قوم شعيب له: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (هود: 91).

في هذا المشهد تتضح ثلاث طبقات من التوتر الذي عرفه الخطاب المكي في زمن البعثة: النظرة إلى النبي بوصفه ضعيفًا، تحديد العلاقة بين مكانة الفرد ومكانة العشيرة، ثم التهديد الصريح بالعنف لو لا وجود رادع اجتماعي يمنعهم. وهذا ما يُطابق تمامًا حالة النبي محمد في مكة، حيث كانت حماية بني هاشم (العشيرة)، وبالأخص عمه أبوطالب، هي الجدار الأخير الذي يحول دون تنفيذ تهديدات قريش المتكررة.

أما في قصة صالح، فثمة مشهد آخر لا يقل رمزية، وهو قول قومه له: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (هود: 62).

يختصر هذا القول طبيعة الانقلاب الشعوري الذي واجهه النبي محمد بعد أن تحوّلت صورته في أعين قومه من “الصادق الأمين” إلى “المجنون” و”الكاهن” و”الكذّاب”. فالعبارة “قد كنت فينا مرجوًّا” تعبّر عن خيبة أمل في رجل كانوا يتوسّمون فيه النبل داخل منظومتهم الاجتماعية، قبل أن يصدمهم بالدعوة إلى التوحيد، وما رافقها من تهديد لبنية المصالح التي ارتبطت بها قدسية الموروث الديني الوثني.

g

كذلك فإن جملة “أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟” تُعيد إنتاج إحدى الحجج الأكثر تكرارًا في الخطاب القرشي الرافض للوحي: تقديس تقاليد الآباء.

ولدينا مشهد آخر مميز من هذا الإسقاط الوظيفي للحاضر (المكّي) على الماضي نجده في مشهد التآمر على صالح: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (النمل: 48–50).

يقف هذا المشهد، من حيث بناؤه الدرامي وتفاصيله النفسية، على مسافة دقيقة من مؤامرة دار الندوة، حيث اجتمع ممثلو قريش ليتقاسموا دم النبي محمد، عبر خطة تقضي بأن يشارك في القتل شباب من مختلف العشائر، ليضيع الدم، ويتعذر الأخذ بالثأر. في الحالتين، نجد المكر الجماعي، والقسم بالله، والمبيت، والنية في القتل، ثم خطة الإنكار.

في الآية السابقة، يتدخّل السياق القرآني ليردّ على هذا المكر بعبارة موجزة وحاسمة: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (النمل: 50). وهي ذات الصيغة التي تكررت في سورة الأنفال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال: 30).

يمثل هذا التماثل بين المؤامرتين، سواء في أهدافها أو تفاصيلها، خطابا تتحول فيه الشخصيات القديمة إلى أقنعة تُعرض من خلالها أحداث الحاضر، بحيث يُتاح للمخاطَب أن يرى ذاته الجماعية في مرآة “قوم ثمود” أو “مدين” أو “عاد”، دون أن يشعر بالهجوم المباشر.

لا ينشغل القرآن هنا بتقديم سرد تاريخي، إنما يسعى لتفعيل بنية رمزية يُعاد عبرها إنتاج الواقع المعاصر في صورة الماضي. تُصبح القصة أداة تفكيك للواقع. كل مشهد من مشاهد الأنبياء العرب الثلاثة يحمل في داخله شحنة إسقاطية، تضيء الموقف المكي وتضعه في إطار السنّة الإلهية التي تمر بها دعوة الحق: الطعن، الاستهزاء، الضعف الظاهري، الحماية القبلية/العائلية، التهديد، ثم المكر، فالمواجهة الكبرى.

وبهذا، فإن استخدام تقنية القناع في هذه القصص يُجنّد الماضي لتأويل الصراع المعاصر، ويمنح النبي والمجتمع المؤمن أدوات فكرية ونفسية لفهم ما يحيط بهم ضمن إطار كوني تاريخي أكبر، حيث تتكرّر سنن الله في الأرض، وتتعاقب الوجوه على نفس المسرح، وإن اختلفت الأسماء.

غايات ودوافع التوظيف

يمثل اعتماد أسلوب القناع في سرد قصص الأنبياء العرب في القرآن أداةً إستراتيجية تُوظّف لخدمة مقاصد كبرى تتصل بجوهر البلاغ القرآني، وبالظروف النفسية والاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالدعوة في مرحلتها المكية، وتُستدعى القصص القديمة وتُشكَّل من جديد لتصبح جهازًا رمزيًا يُنجز مهام متعددة في وقت واحد، دون إثارة المواجهة المباشرة.

بناء الإطار النفسي للجماعة المؤمنة: تأتي قصص هود وصالح وشعيب لتعزيز ثقة المسلمين الأوائل بمسارهم، في وجه التهديدات والتكذيب والإيذاء. فحين يُخبرهم الوحي بأن ما يواجهونه اليوم قد واجهه أنبياء سابقون في ظروف مشابهة، بل متطابقة، تتغير دلالة المعاناة من كونها مأساة فردية إلى كونها علامة من علامات الطريق النبوي، وشرطًا من شروط الصعود الأخلاقي والروحي. هذا المعنى تجسده عديد من الآيات التي تُقدّم سردية متكررة يُستهل فيها خطاب كل نبي بنداء التوحيد، ويُقابل بالتكذيب، ثم يُختتم بالنجاة والنصر.

m

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (الأعراف: 91–94).

هذه الخاتمة تمنح المؤمنين في مكة شعورًا بأن المصير الإلهي لا يتخلف، وأن الغلبة في نهاية المطاف لمن يتمسكون بالحق، حتى لو طال الانتظار.

التهديد الرمزي للخصوم: بدل أن يُواجه الوحي قريشًا بالوعيد الصريح، يُقدّم لهم مصائر عاد وثمود ومدين على أنها نماذج تاريخية لما يحدث حين يُكذَّب الرسل ويُستضعف الحق. هذا التهديد غير المباشر أكثر عمقًا وأبلغ أثرًا، لأنه لا يُشعر المتلقي بأنه مُستهدَف، إنما يضعه أمام مرايا من الماضي قد يرى فيها صورته الحاضرة. بهذا التلميح المُحمّل بالسوابق التاريخية، يتم تحييد المقاومة النفسية، وتُصبح القصص وسيلة إقناع هادئة لا صراعًا مباشرًا.

رفع الصراع من المحلي إلى الكوني: عبر تقنية القناع، يتحوّل الصراع في مكة من نزاع محلي بين النبي وزعماء قريش إلى مواجهة كبرى بين التوحيد والشرك، بين نور الرسالة وظلمة الجاهلية. بهذا التوسيع المفاهيمي، يتجاوز الوحي القرآني اللحظة الزمنية، ويمنحها شرعية نبوية تتصل بسلسلة الأنبياء، مما يجعل الانتماء لهذا الصراع موقفًا أخلاقيًا مصيريًا، لا مجرد خيار سياسي.

ومن جهة أخرى لا يعود النبي محمد رسولا يواجه ظرفًا خاصًا، بل تتجلّى نبوته داخل سياق أعظم: هي سنّة الله في عباده. يصبح التاريخ نفسه هو من يتكلم على لسانه، وتصبح معاناته تجسيدًا حيًّا لمعاناة سابقة عاشها أنبياء مثله، نُبذوا، كُذّبوا، أوذوا، ثم انتصروا.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ۚ أُولَٰئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (ص: 12–14).

في المجمل، فإن أسلوب القناع في هذه القصص يمثل أداة تفسير وتأويل، تُحوّل الماضي إلى منصة لفهم الحاضر، وتُقدّم للنبي محمد وللمؤمنين منظومة رمزية متكاملة تشرح، وتُثبّت، وتُهدّد، وتؤطّر، وتُبشّر، دون الدخول في صدامات مباشرة. لا تتوقف هذه القصص عند مستوى التأريخ لأنبياء منسيين، إنما هي بناء درامي يعكس ملامح الواقع المكي، ويسمح للخطاب القرآني أن يتوجه للمؤمنين، كما الكفار، بصيغة تربوية وتكوينية ترسّخ النموذج النبوي في الوعي الجمعي، وتؤطر معنى المقاومة والمعاناة ضمن سنّة ربانية لا تتبدّل. وهكذا، فإن كل نبي يُستدعى لا بصفته التاريخية، بل بصفته الوظيفية: المُصلح، الداعي، الخطيب. وكل قوم لا يُذكرون كقبائل بائدة وحسب، بل كوجوه متكررة للشرك والعناد والجبروت، التي تُولد وتُباد مرة بعد مرة في ساحة التاريخ.

وسواء أكانت هذه الشخصيات حاضرة فعلًا في الذاكرة العربية ما قبل الإسلام، أم صيغت رمزيًا داخل الوحي القرآني، فإن تأثيرها يتجاوز حدود الواقع والتاريخ. لقد أصبحت أدوات خطابية بالغة النفاذ، تُحرّك الوجدان، وتُربّي العقل، وتُعزّز الصبر، وتُهدّد دون تصريح، وتُعلي من شأن المعركة لتصبح صراعًا كونيًا. إنها بلاغة القناع في أرقى تجلياتها: حين تُستخدم للتكثيف لا التخفي وللإقناع دون صدام.

فهل قصة هود تتجاوز عادا لتتحدث عن شيء أعمق؟ وهل صالح وشعيب يحملان رسائل تمتد إلى ما وراء ثمود ومدين؟ وإلى أي حد يمكن أن تكون تجاربهم انعكاسات لتجربة النبي محمد في لحظة من أشد لحظات الصراع توترًا في مكة؟

10