البوليفونية في الرواية العربية تقنية زائفة

فشل الروائيين العرب في صناعة أصوات متعددة له جذوره وأسبابه.
الجمعة 2025/07/04
شخصيات تتعدد بصوت واحد (لوحة للفنان أنس سلامة)

يمكننا أن نلاحظ أن الثقافة العربية تواجه تحديا كبيرا في فرض التعددية والاختلاف، إذ تهيمن نزعة قديمة متجذرة تكرس الرؤية الأحادية والصوت الواحد، وهذا مفهوم إذا ما نظرنا إلى واقع المجتمعات التي تنشأ فيها هذه الثقافة. ووفقا لهذا فإن ادعاء الكثير من الروائيين العرب أنهم يكتبون روايات متعددة الأصوات أمر مغلوط كليا وله أسبابه.

برز مفهوم البوليفونية، أو تعدد الأصوات، في النقد الأدبي الغربي علامةً فارقة على نضج الرواية الحديثة، ومؤشرًا على قدرتها على كسر هيمنة الصوت الواحد للراوي العليم مطلق القدرة.

لم تعد الرواية مجرد منصة لسارد سلطوي يمسك بكل الخيوط ويوجه كل التفاصيل، بل تحوّلت إلى فضاء ديمقراطي معقد تتصارع فيه أصوات مستقلة، لكل منها لغتها الخاصة ومنطقها الداخلي وعالمها الفكري المتماسك، مانحة بذلك العمل الروائي بعدًا إنسانيا أعمق وقدرة أكبر على الإقناع والتأثير. يشترط هذا التطور في الفن الروائي من الكاتب قدرة استثنائية على التنازل الطوعي عن سلطته المطلقة على النص، والسماح لشخصياته بأن تتكلم بأصواتها الحقيقية، وأن تحمل رؤاها الخاصة، وأن تتحدى أفكار خالقها.

لكن حين ننتقل من هذا الإطار النظري المثالي إلى الواقع الملموس للرواية العربية المعاصرة، نجد أنفسنا أمام مفارقة محيرة. إن عددًا كبيرًا من الروايات العربية التي تتبنى أسلوب تعدد الرواة، والتي تقدم نفسها كنماذج للكتابة الحداثية، تفشل فشلًا ذريعًا في تحقيق الجوهر الحقيقي للبوليفونية. هذه الروايات تكتفي بتغيير اسم الراوي في بداية كل فصل، وتكتفي بكل ما عدا ذلك؛ النبرة اللغوية عينها، البناء العقلي ذاته، والأسلوب نفسه في التفكير والتعبير، حتى تصير الأصوات المتعددة مجرد أقنعة مختلفة يرتديها الممثل الواحد نفسه.

لماذا تسجن الرواية العربية نفسها في هذا القفص أحادي الصوت؟ لماذا هذا الإصرار على الخيانة الفنية لتقنية البوليفونية التي يُفترض أنها أتت لتكسر هيمنة الصوت الواحد؟ هل هي طبيعة الثقافة العربية نفسها، القائمة على القمع الفكري، والنظرة الأحادية، والحقيقة الوحيدة المطلقة؟ هل هي غيرة الكاتب أن تفلت منه الشخصيات وتستقل بنفسها، بصوتها، وتتفوق عليه؟ هل هي ترسبات الثقافة الشفاهية، ثقافة التلاوة والإسناد؟ هل الثقافة العربية في عمقها ما تزال شفاهية، محكية، أكثر مما هي ثقافة كتابية؟ الجوهر الأصيل، والمتطلب الأساسي، للبوليفونية الحقيقية، الصادقة، هو انفتاح آفاق النظرة النقدية والقبول بتعدد أوجه الحقيقة، فهل يخاف الكاتب العربي من مواجهة الحقيقة ويركن مستسلما للوضع الراهن، للحقيقة الواحدة، غير معني بفعل المساءلة والبحث والحفر؟

جذور الصوت الواحد

الثقافة الشفاهية والأمية الروائية والسلطة بنزعتها الأحادية والخوف من فقدان السيطرة كلها أسباب لفشل البوليفونية

إن أحد التفسيرات التي يمكن التفكير فيها يكمن في طبيعة علاقة ثقافتنا العربية بفعل الكتابة ذاته، وفي الطبقات المتراكمة من الإرث الثقافي الذي يشكل وعي الكاتب العربي دون أن يدرك ذلك بالضرورة. ترتكز الثقافة العربية، في تكوينها التاريخي الممتد، على التقليد الشفاهي، المزدهر لقرون طويلة على حساب الكتابة. تجسد هذا التقليد الشفاهي في مؤسسات مثل الحكواتي في المقاهي الشعبية، وكذلك في ثقافة الحفظ والتلاوة في المساجد والكتاتيب، مؤسسا لنموذج ثقافي معين في التعامل مع السرد والحكاية.

في هذا النموذج التقليدي، تكون القيمة العليا والأساسية لصوت الحاكي نفسه، لنبرته المميزة وقدرته البلاغية وحضوره الشخصي المؤثر، وليس للأصوات المتنوعة التي يحكي عنها أو يؤديها. الشخصيات لا تتكلم، بل يُحكى عنها من قبل راوٍ أعلى يتولى مهمة تقديمها للجمهور؛ هي مواضيع للحكي وليست ذواتًا حكائية مستقلة تملك أصواتها الخاصة وعوالمها الداخلية المتفردة. هذا الإرث العميق متجذر في وعي الكاتب العربي ويخلق عنده نزعة طبيعية لأن يكون حكواتيا بدوره، ساردا أعلى، وظيفته الأساسية هي الأداء اللغوي الجميل والتأثير البلاغي المباشر، فيطغى صوته الخاص وأسلوبه المميز على أصوات شخصياته التي وجب أن تكون متنوعة ومختلفة، بسيطة أو متلعثمة أو عامية أو متعلمة، كل حسب سياقها الاجتماعي وخلفيتها الثقافية.

هذه النزعة الشفاهية المتجذرة تفسر لنا لماذا نجد في الكثير من الروايات العربية أن الفلاح الأمي الذي لم يتعلم القراءة ولم يغادر قريته الصغيرة يتحدث بنفس الفصاحة والبلاغة التي يتحدث بها الأستاذ الجامعي، وأن الطفل يحمل العمق الفلسفي ذاته والتعقيد اللغوي الذي يحمله الشيخ المسن، وأن المرأة غير المتعلمة تملك المفردات والتراكيب ذاتها التي تملكها المرأة المتعلمة. الكاتب هنا، تحت تأثير هذا الإرث الخفي، يفقد القدرة على أن يخلق أصواتًا متمايزة ومستقلة، ويكتفي بأن يروي حكايات مختلفة بصوته الواحد.

يتصل بهذا السبب المتجذر سبب آخر لا يقل أهمية وخطورة، وهو ما يمكن أن نسميه “الأمية الروائية” أو ضعف الاهتمام الجدي بالصنعة الروائية كحرفة تقنية معقدة تتطلب أدوات دقيقة ومهارات متطورة وتدريبًا مستمرًا. إن خلق أصوات متعددة ومقنعة وقابلة للتصديق هو تحدٍ فني هائل، يتطلب أكثر بكثير من مجرد تغيير اسم الراوي في بداية كل فصل، أو التنويع الشكلي في ضمائر السرد. إنه يتطلب، في المقام الأول، قدرة استثنائية على الملاحظة الدقيقة للسلوكيات الإنسانية المختلفة، واستعدادًا نفسيًا للتخلي عن منطقة الراحة اللغوية والفكرية للكاتب، وقدرة للمغامرة في عوالم لغوية وذهنية قد تكون غريبة ومختلفة عن عالمه الخاص.

لكن الكثير من الروايات العربية تركز جهدها الأساسي على ماذا تريد أن تقول، أي على الرسالة المباشرة والقضية الاجتماعية أو السياسية والحبكة الخارجية، على حساب كيف تقول ذلك، أي على التقنيات الفنية والأساليب السردية والطرق المبتكرة للتعبير. هذا الخلل في الأولويات، الذي يعكس مفهومًا مشوهًا لوظيفة الأدب ودور الروائي، يجعل الكاتب يلجأ بطبيعة الحال إلى أسهل الحلول المتاحة وأقلها كلفة فنية: إلباس جميع شخصياته معطفه اللغوي الخاص، وإجبارها على التفكير بنفس منطقه، والتعبير بنفس أسلوبه، والرؤية بنفس عينيه. فالهدف عنده هو “حكي حدوتة” وليس صناعة رواية.

الجوهر الأصيل والمتطلب الأساسي للبوليفونية الصادقة هو الانفتاح الحقيقي على تعدد أوجه الحقيقة
الجوهر الأصيل والمتطلب الأساسي للبوليفونية الصادقة هو الانفتاح الحقيقي على تعدد أوجه الحقيقة

النتيجة المؤسفة والمتكررة هي أننا لا نرى في هذه الروايات أيّ فرق حقيقي أو مقنع بين أصوات شخصيات مختلفة تماما من حيث وعيها وتكوينها العقلي وقدراتها المعرفية. هذا الفشل في خلق التمايز الصوتي لا يعود فقط إلى مجرد خيانة تقنية لمفهوم البوليفونية، بل هو وجه واحد من تمظهرات جهل بنيوي بأساسيات الكتابة الروائية. 

لكنّ هناك بعدًا آخر مثيرا للاهتمام هو أيضا، يتجاوز الأسباب التقنية والثقافية ليلامس أسئلة نفسية وفلسفية معقدة حول السلطة والهيمنة. إن البوليفونية الحقيقية، في جوهرها العميق، هي فعل تنازل طوعي وواعٍ عن السلطة المطلقة. الكاتب الذي يختار هذا الطريق يتخلى، بشكل مدروس ومقصود، عن دوره التقليدي كـ”إله” مطلق للنص، ويسمح لشخصياته بأن تتطور وتنمو وتستقل تدريجيًا عن سيطرته المباشرة، وأن تتحدى أفكاره المسبقة، وتشكك في مسلماته الراسخة، بل وأن تهزمه في الحوار الداخلي وتفرض عليه رؤى لم يكن يتوقعها أو يخطط لها. هذا النوع من الكتابة يتطلب شجاعة فكرية استثنائية وثقة كبيرة وراسخة بالنفس، وقدرة على التعامل مع اللايقين والمناطق الرمادية التي لا تخضع للسيطرة التامة.

في سياقنا الثقافي والاجتماعي العربي، حيث تسود النزعات الأحادية في التفكير و”التكفير”، وحيث تهيمن نظرة الحقيقة الواحدة المطلقة، ويتم قمع الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر، قد تكون النزعة الأحادية في الرواية مجرد انعكاس طبيعي ومنطقي لبنى السلطة الأحادية المهيمنة في المجتمع. الكاتب، كابن لهذه البيئة الثقافية ونتاج لتربيتها وقيمها، إنما هو يكرر، حتى لو لم يقصد ذلك بوعي، هذه البنية السلطوية الأحادية داخل نصه الأدبي، فيرفض، على مستوى لاواع، أن تخرج شخصياته عن طوعه المباشر، ويضمن أن تكون كل الأصوات في النهاية مجرد صدى مطيع لصوته الخاص، مؤكدًا بذلك هيمنته النهائية كصاحب الكلمة الأخيرة والحكم الفصل.

هذا الخوف من فقدان السيطرة، قد يدل على مستوى آخر على خوف الكاتب من مواجهة التعقيد الحقيقي للوجود الإنساني، ومن الاعتراف بأن الحقيقة ليست واحدة وثابتة ومطلقة، بل متعددة ومتحركة ونسبية. إن الكاتب الذي يسمح لشخصياته بالتكلم بأصواتها الحقيقية يخاطر بأن تقول أشياء لا يتفق معها، أو تتخذ مواقف تحرجه، أو تكشف جوانب من الواقع كان يفضل إبقاءها مخفية. هذه المخاطرة تتطلب نضجًا فكريًا وشجاعة أدبية يصعب كثيرا أن تتوفر عند الكاتب العربي، خاصة المقيم في الدول العربية.

مواجهة أنفسنا

التحدي الأكبر الذي ما تزال تواجهه الرواية العربية هو الانتقال الجذري من التلقين والتعليم إلى التشكك والاكتشاف

في نهاية المطاف، إن الجوهر الأصيل والمتطلب الأساسي للبوليفونية الصادقة هو الانفتاح الحقيقي على تعدد أوجه الحقيقة، والقبول العميق والواعي بأن الحقيقة ليست معطى ثابتًا وجاهزًا يمكن تقديمه للقارئ في عبوة أنيقة ومغلقة، بل هي نتاج حواري مفتوح ومستمر لا ينتهي، يشارك فيه النص والقارئ والشخصيات والكاتب نفسه في عملية بناء جماعي وتشابك نقدي خلاق. هذا المستوى من التعقيد والانفتاح يتطلب من الكاتب أن يتخلى عن دور المعلم الذي يملك الإجابات الجاهزة، ويقبل بدور الباحث الذي يطرح الأسئلة المقلقة ويتعامل مع الشك واللايقين كجزء أساسي من التجربة الإنسانية.

فهل يخاف الكاتب العربي من هذه المواجهة المفتوحة مع التعقيد والغموض؟ هل يفضل الركون إلى الحقيقة الواحدة المريحة والآمنة، التي يقدمها جاهزة ومغلفة ومفسرة للقارئ، غير معني بفعل المساءلة الجذرية والحفر العميق والتفكيك الذي تتطلبه الكتابة الحقيقية والجادة؟

 إن الرواية أحادية الصوت، حتى لو تزينت بقناع التعددية الخادع وتباهت بالتقنيات المستعارة، هي في جوهرها رواية تقدم إجابات أكثر ممّا تطرح أسئلة، وتسعى للإقناع أكثر من السعي للاستكشاف. أما الرواية البوليفونية الصادقة، فهي على العكس تمامًا؛ إنها تترك القارئ في قلب الصراع الحقيقي، محمّلًا بالأسئلة المقلقة والشكوك المبررة، ومجبرًا على اتخاذ موقفه الخاص وبناء فهمه الشخصي للعالم والوجود. 

أمام هذه الصعوبات، والاستحالة البنيوية لكتابة رواية متعددة الأصوات، لماذا يلجأ الكاتب العربي إلى هذه البوليفونية الزائفة، الشكلية، ويتشبث باعتماد تعدد الرواة دون منحهم أصواتهم الخاصة، والأسهل عنده أن يكتفي بصوت راو وحيد؟ التفسير القاسي، الذي يعيدنا إلى محور الأمية الروائية، هو الاستسهال. فالكاتب الروائي، في العموم، لا دراية له ولا اهتمام عنده لضبط البناء الروائي. كل ما يهمه هو أن يرمي “الحدوتة” في وجه القارئ، وينتظر منه أن يغض الطرف عن كل الهفوات التقنية، الفنية، في البناء الروائي.

لذلك ربما، التحدي الأكبر الذي لا تزال الرواية العربية تواجهه في سعيها نحو النضج الحقيقي هو الانتقال الجذري والواعي من رواية تُعلّم وتوجه وتلقن، إلى رواية تسأل وتشكك وتستكشف، ومن فن يُسمع صوتًا واحدًا مهيمنًا، إلى فن يُحاور بأصوات متعددة ومتصارعة. هذا الانتقال يتطلب ثورة حقيقية في الوعي، ليس فقط على مستوى التقنيات الفنية، بل على مستوى الفلسفة الكامنة وراء عملية الكتابة نفسها، وعلى مستوى العلاقة بين الكاتب ونصه، وبين النص وقارئه، وبين الأدب والحياة في نهاية المطاف.

فإلى أيّ مدى نحن مستعدون، ككتاب وقراء ونقاد، لخوض هذه المواجهة الصعبة مع أنفسنا ومع تقاليدنا الراسخة؟ وإلى أيّ مدى يمكننا أن نتجاوز وهم التعددية الشكلية لنصل إلى التعددية الحقيقية التي تعكس ثراء التجربة الإنسانية وتعقيدها؟

13