استهداف مصر.. استهداف لكل العرب
ما يحدث حاليًا ضد مصر يمكن أن يحدث ضد أيّ دولة عربية أخرى، سواء من باب التآمر العملي لتغيير أنظمة الحكم لصالح أطراف سياسية بعينها، أو من باب الابتزاز الذي بات متاحًا في ظل التطور الرهيب لآليات التعبئة والتحريض والاستقطاب وصناعة الأكاذيب وفبركة الوقائع والتلاعب بالعقول والمشاعر.
واستهداف مصر شهد خلال الفترة الماضية حركة واسعة على أكثر من صعيد، خاصةً من خلال التظاهر أمام السفارات ومحاولات اقتحامها من قبل عناصر إخوانية بالأساس، تجد لمؤامراتها سندًا بين تيارات الاشتراكيين الثوريين والقوميين الإسلاميين والليبراليين المحسوبين على المحافظين الجدد، ومن يتبنون نظرية “الخراب الأكبر”، ولا يرون مانعًا من دمار الدول الوطنية وتمزيق شعوبها طالما أن ذلك يفسح المجال للجماعة الإرهابية كي تستعيد مقاليد الحكم التي سحبتها منها الشعوب سواء عبر الانتفاضات الشعبية أو من خلال صناديق الاقتراع.
وأغرب ما في الموضوع هو اتجاه البعض إلى الانقلاب على معايير الإدانة، فبدلًا من توجيه أصابع الاتهام إلى قادة إسرائيل وتأكيد مسؤوليتهم الكاملة عن حرب الإبادة الجماعية والتجويع والتعطيش والتهجير القسري لسكان غزة، اتجهوا إلى إدانة مصر، وعملوا بما أوتوا من قوة على تشويه صورة الدولة المصرية بقيادتها السياسية ومؤسستها العسكرية العريقة، وبلغ بهم الأمر حد التظاهر أمام سفارة مصر في تل أبيب رافعين علم الكيان الصهيوني، هاتفين ضد “أم الدنيا” وحاضنة العرب، الدولة المركزية التي طالما قدمت التضحيات الجسام، والتي أعطت دون حساب في جميع الحروب، ودفعت الفواتير الغالية في وقت كانت فيه دول أخرى تكتفي بالصمت أو بالشماتة عند النكسة والتشكيك في قيمة النصر المحقق عن جدارة.
◄ اليوم، يحصل أكثر من 8 من كل 10 أميركيين على أخبارهم عبر الأجهزة الرقمية، متفوقين بذلك على التلفزيون والراديو والصحف
كان خروج الإخوان خلال الأيام الماضية ضد قيادة مصر وقواتها المسلحة مؤشرًا على تحرك الجماعة في إطار مؤامرة ذات خيوط إقليمية ودولية، تهدف بالأساس إلى إرباك القاهرة، والضغط عليها حتى تقبل بتمرير مخطط التهجير القسري لسكان غزة إلى دول أخرى، رغم تأكيد الرئيس عبدالفتاح السيسي بما لا يدع مجالًا للشك أنه لن يقبل بإبعاد الفلسطينيين عن ديارهم ولا بتصفية قضيتهم الوطنية التي هي في ذات الوقت قضية المصريين والعرب جميعًا، باستثناء المتاجرين بها في مزادات المصالح الشخصية والحزبية والمراهنين على إنهائها بما يخدم أجنداتهم.
إن أخطر ما يمكن التنبيه إليه هو أن الآليات المعتمدة لاستهداف مصر حاليًا صارت في متناول الجميع، وقد تُستخدم ضد أيّ نظام عربي في الوقت الذي يختاره أصحاب القرار، وهي امتداد لما حدث في عام 2011 وما بعده، ولكن بتقنيات أكثر تطورًا، وفي ظل تحولات جيوسياسية غير مسبوقة، ويطلق عليها البعض اسم “الموجة الثانية من الربيع العربي.” وللأسف، فإن بعض القوى الإقليمية لا تزال تراهن على إشعال الفتنة والترويج لثقافة الكراهية وتنفيذ مخطط التخريب الممنهج للدولة الوطنية، ورغم محاولاتها التملص من مواقفها السابقة، إلا أنها ما زالت متمسكة بثوابتها القديمة وتمول شبكات التآمر من وراء الستار.
إن خطة استهداف مصر يمكن اعتمادها ضد هذا البلد العربي أو ذاك، وخطر الخراب إذا طرق باب دولة ما فإنه لن يتوقف عندها، وكما حدث سابقًا، فقد تجد الدول العربية نفسها عرضة لعدوى الفوضى وفق نظرية “الدومينو” التي تفترض أن التغييرات في البنية السياسية لبلد ما تميل إلى الانتشار إلى الدول المجاورة. وعاجلًا أم آجلًا، ستنكشف الحقائق بسحب القناع عن وجوه مدبري المؤامرات ومديري الأزمات.
قبل أيام، حرص الرئيس السيسي على تأكيد أن المنطقة العربية تمر بظروف استثنائية منذ عام 2011، وليس فقط منذ أحداث 7 أكتوبر 2023، ما يؤكد صحة السياسات المصرية المرتكزة على التوازن وعدم التدخل واحترام سيادة الدول. وحذّر من محاولات بث الفرقة بين الشعوب العربية عبر وسائل الإعلام والتواصل، مؤكدًا قوة العلاقات المصرية مع الدول العربية الشقيقة، وضرورة تجاوز الخلافات من أجل وحدة الصف العربي. كما شدد على أن الأمن العربي وحدة متكاملة ترتبط به مصر ارتباطًا وثيقًا، وأن أيّ تدخل خارجي يهدف إلى زعزعة استقرار الدول العربية. وفي نفس السياق، أكد الرئيس أن مواقع التواصل الاجتماعي ليست شرًا في حد ذاتها، بل يعتمد تأثيرها على كيفية استخدامها؛ فهي أداة نافعة إذا أُحسن توظيفها، لكنها قد تُستخدم لترويج الشائعات وهدم المعنويات، وهو ما يواجهه الشعب المصري بوعي وإدراك متزايد.
علينا أن نعود قليلًا إلى الوراء لندرك جيدًا معنى أن تكون الأخبار المضللة وراء دمار دول. فالعراق تعرض للغزو بسبب ما سُمّي لاحقًا “أكذوبة القرن” المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل. في 5 فبراير 2003، وقف وزير خارجية أعظم دولة في العالم، كولن باول، أمام مجلس الأمن يشير بأنبوب اختبار صغير يحتوي على مسحوق أبيض، مؤكدًا أنه يقدم أدلة وصفها بـ”الدامغة” آنذاك عن إخفاء نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وأنه يواصل خروقاته المادية لقرار مجلس الأمن 1441 لعام 2002. لكن تبين لاحقًا أن أعظم دولة في العالم صنعت أعظم كذبة لتمارس سطوتها بغزو بلد صغير كان لا يزال تحت وطأة 12 عامًا من الحصار القاتل.
◄ استهداف مصر شهد خلال الفترة الماضية حركة واسعة على أكثر من صعيد، خاصةً من خلال التظاهر أمام السفارات ومحاولات اقتحامها من قبل عناصر إخوانية بالأساس
وفي عام 2011، لعبت الأخبار المضللة دورًا مهمًا في دفع عدد من الدول العربية إلى نفق مظلم، حيث أُطيح بالأنظمة الوطنية، وأحدثت تصدعات عنيفة في البنى الاجتماعية، وفُتح المجال أمام تدخلات خارجية سافرة، وانتشر الإرهاب على نطاق واسع، وانفلت السلاح، وانهارت الحدود، وشهدت دول عدة أزمات مالية واقتصادية لا تزال تعاني منها إلى اليوم. وأدت تلك الموجة إلى مقتل آلاف الأبرياء وتشريد الملايين، وإلى خسائر مادية بلغت نحو تريليون دولار. وبعد 15 عامًا، ما زالت دول مثل ليبيا واليمن وسوريا تدفع الثمن غاليًا وتواجه تحديات البقاء.
تشير تقديرات عام 2024 إلى أن نسبة الأمية في الوطن العربي تتراوح بين 24.6 في المئة و27.1 في المئة، ما يعني أن عدد الأميين في المنطقة يتراوح بين 70 و100 مليون نسمة. ورغم ارتفاع هذه النسب، فإنها تعد أقل خطورة من ظاهرة “الأمية المقنعة” والجهل بتقنيات العصر، والإقبال على استخدام أجهزة الاتصال الحديثة دون وعي بحقيقة ما تبثه وتنشره على نطاق واسع.
في عام 2021، كشفت دراسة أجراها “مركز الإنترنت الآمن” في المملكة المتحدة بعنوان “تعرض نصف الشباب لمحتوى مضلل على الإنترنت يوميًا” أن 48 في المئة من الشباب يشاهدون محتوى مضللًا يوميًا، حيث يشاهده أكثر من واحد من كل عشرة منهم أكثر من ست مرات يوميًا، ما يجعلهم غالبًا يشعرون بالانزعاج أو الحزن أو الغضب أو الخوف.
اليوم، يحصل أكثر من 8 من كل 10 أميركيين على أخبارهم عبر الأجهزة الرقمية، متفوقين بذلك على التلفزيون والراديو والصحف. وتُعد وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الأكثر شيوعًا للأخبار بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا. وهم ليسوا الوحيدين؛ إذ يحصل 53 في المئة من الأميركيين على بعض أخبارهم على الأقل من وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أصبحت منصات مثل تويتر وفيسبوك وتيك توك منصات إخبارية زائفة.
في منطقتنا العربية، نحتاج إلى موقف قومي موحد يتصدى لحالة الانفلات المعلوماتي، ويمارس رقابة مشددة على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، ويمنع تمرير أيّ مادة مسيئة لهذا البلد أو ذاك، ويحاصر المواد التحريضية والأخبار المضللة والخطابات التكفيرية والتخوينية، بغض النظر عن النظام السياسي المستهدف. فالمؤامرة كبيرة، والخطر محدق بالجميع، ولا يقتصر الأمر على مصر بل يمتد إلى جميع الدول المعتدلة. والحملات المعادية مدفوعة الأجر، ولها مخصصات مالية كبيرة، والواقفون وراءها لا يستثنون أيّ أداة في مشروعهم التخريبي. فما يهمهم أولًا وأخيرًا هو استهداف الأنظمة الوطنية، وهدفهم الأول النظام المصري بما يمثله من التزام بالهوية المصرية وبالقضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين.