توسع الاعتراف الدولي بفلسطين اختبار أخير لسلطة عباس

عقود من الفشل في استثمار تغيّر المزاج الدولي.
الأربعاء 2025/09/24
فرصة جديدة تستوجب مقاربات جديدة

الاعتراف الدولي المتزايد بفلسطين يشكل منعطفا جديدا في مسار القضية الفلسطينية، لكنه يضع السلطة أمام اختبار حقيقي. فبينما تتاح لها فرصة لتعزيز شرعيتها على المستوى الدولي، يظل التحدي الأكبر داخليا: القدرة على الإصلاح، وتجاوز الانقسامات، واستثمار هذا الدعم لإنهاء سنوات من الإخفاقات المتكررة.

يمثل توسع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وعلى رأسه إعلان فرنسا الأخير، لحظة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، ويشكّل فرصة تاريخية للسلطة الفلسطينية لتعزيز شرعيتها وتحريك مسار الدولة نحو الأمام.

ومع ذلك، تأتي هذه الفرصة في سياق تاريخي معقد ومليء بالإخفاقات التي حالت دون قدرة السلطة على استثمار اللحظات الدولية المواتية لصالح القضية الفلسطينية على مدى عقود.

ويبدو الاعتراف الفرنسي خطوة ذات بعد إستراتيجي ودبلوماسي كبير، ليس فقط على المستوى الرمزي، بل كفرصة عملية للسلطة الفلسطينية لتعزيز موقعها الداخلي والدولي. فهو يمنحها شرعية أوسع أمام المجتمع الدولي، ويؤكد دورها كطرف شرعي يمثل الفلسطينيين في المحافل الدولية، ما يزيد من قدرتها على التفاوض والمطالبة بحقوقها. كما يشكل الاعتراف ضغطا دبلوماسيا على إسرائيل، ويعكس موقفا أوروبيا داعما لحل الدولتين، ويحفز دولا أخرى على السير على نهج فرنسا، ما يخلق زخما دبلوماسيا إضافيا.

وعلى مدار السنوات الماضية لم تتمكن السلطة من تحويل الدعم الدولي المتنوع إلى خطوات ملموسة على الأرض، بدءاً من اتفاق أوسلو في التسعينات، الذي وضع أسس الحكم الذاتي المؤقت في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه لم يصحبه بناء مؤسسات قوية وشفافة يمكنها إدارة الحكم بكفاءة وفاعلية.

ضعف السلطة الفلسطينية مهد الطريق لتراجع ثقة المجتمع الدولي والشعب الفلسطيني على حد سواء في قدرتها على قيادة المشروع الوطني

وجعل غياب هذه المؤسسات السلطة ضعيفة أمام الانقسامات الداخلية والتحديات الإقليمية، ومهد الطريق لتراجع ثقة المجتمع الدولي والشعب الفلسطيني على حد سواء في قدرتها على قيادة المشروع الوطني.

وخلال انتفاضة الأقصى في بداية الألفية، شهد العالم تركيزا دوليا غير مسبوق على القضية الفلسطينية، مع تسليط الضوء على الظلم الذي يواجهه الفلسطينيون على الأرض، لكن السلطة لم تستغل هذه اللحظة لصالحها.

وبدلا من تحويل الدعم الدولي إلى خطوات عملية نحو تعزيز الدولة الفلسطينية، انشغلت بإدارة الصراعات الداخلية والتنافس مع حماس، الأمر الذي ساهم في تفاقم الانقسامات وتراجع فاعلية السلطة.

ويوضح د. يوسف العظمة، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في لندن، أن “السلطة الفلسطينية أضعفت موقفها الدولي بسبب العجز عن إدارة التحديات الداخلية والتنافس مع حماس، ما جعلها غير قادرة على استثمار الدعم الدولي في تعزيز الدولة الفلسطينية على الأرض.”

وأضاف العظمة أن هذه الإخفاقات المتكررة أضرت بمصداقية السلطة أمام المجتمع الدولي، وجعلت أي دعم محتمل مشروطا بوجود قيادة فلسطينية موحدة قادرة على التمثيل الفعلي لكل الفلسطينيين.

وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، ازدادت التعقيدات الداخلية للسلطة الفلسطينية بشكل كبير، ما زاد من ضعفها أمام المجتمع الدولي.

وأضعف الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة قدرة السلطة على تمثيل الشعب الفلسطيني بشكل كامل، وجعل أي دعم دولي محدودا ومرتبطا بوجود قيادة موحدة، وهو ما لم يتحقق عمليا.

ورغم المبادرات الدولية المتعددة مثل المبادرة العربية للسلام عام 2002، فشلت السلطة في فرض الحقوق الفلسطينية على الأرض، وظل غياب الحسم السياسي والإصلاح الداخلي من أبرز العوائق أمام بناء دولة مستقلة وفعالة.

يجب استثمار الاعتراف الدولي الحالي في تحريك ملف الدولة على الأرض من خلال خطوات عملية نحو بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز الحقوق المدنية، والحفاظ على الأراضي الفلسطينية

كما أن الإدارة الفلسطينية لم تستطع استغلال الدعم المالي والدبلوماسي الذي تلقته من المجتمع الدولي لإحداث تغييرات جوهرية على مستوى المؤسسات أو تحسين الأداء الإداري والاقتصادي، وهو ما ساهم في استمرار ضعف الثقة الشعبية.

ويمثل الاعتراف الفرنسي الأخير بالدولة الفلسطينية، الذي جاء مصحوبا بمطالب واضحة بالإصلاح الداخلي وعزل حماس، اختبارا مباشرا لقدرة السلطة على استثمار التغيرات في المزاج الدولي.

وفي الوقت الذي يظهر فيه المجتمع الدولي دعما متزايدا للسلطة الفلسطينية كطرف شرعي وحيد يمثل الشعب الفلسطيني، يصبح الرهان على القدرة الفلسطينية على التغيير والإصلاح داخليا أكثر وضوحا.

ويرى البروفيسور مارك كينج، أستاذ العلاقات الدولية في باريس، أن “هذه اللحظة تمثل فرصة غير مسبوقة للسلطة الفلسطينية لتأكيد شرعيتها أمام المجتمع الدولي، لكن نجاحها يتوقف على قدرتها على إدارة المؤسسات داخلياً، واستعادة الثقة الشعبية، وإظهار جدية القيادة الفلسطينية في تحقيق الإصلاح.”

من جانبه يشير خالد زهران، محلل فلسطيني، إلى أن “إخفاقات الماضي أطلقت تحذيرات واضحة: السلطة لا تستطيع التقدم دون إعادة بناء مؤسساتها وتحقيق إصلاحات ملموسة تعزز شرعيتها أمام الشعب والدول المانحة، وإلا فإن أي اعتراف دولي سيظل رمزيا دون تأثير فعلي على الأرض.”

ولضمان استثمار هذه الفرصة، هناك مجموعة من الخطوات الجوهرية التي يجب على السلطة الفلسطينية تنفيذها فورا.

أولاً، يجب إعادة ترتيب مؤسسات الحكم الفلسطيني لتصبح أكثر شفافية وفاعلية، مع إنشاء آليات رقابية حقيقية تضمن توزيع المساعدات والمخصصات الاجتماعية على أساس الحاجة الفعلية وليس المحسوبيات أو الولاءات السياسية.

ولا يقتصر هذا الأمر على الجانب المالي فقط، بل يمتد إلى جميع مؤسسات الدولة، بما في ذلك القضاء والأجهزة الأمنية والإدارية، لضمان أن تكون السلطة نموذجا للحكم الرشيد وتكون لديها القدرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ثانياً، على السلطة تعزيز الوحدة الفلسطينية على المستويين السياسي والاجتماعي. سياسياً، يجب العمل على تخفيف الانقسامات بين فتح وحماس، وربما فتح حوار جدي حول آليات الحكم المشترك في غزة والضفة الغربية، بحيث تصبح السلطة الفلسطينية طرفاً يمثل الشعب الفلسطيني بكامل أجزائه. اجتماعياً، ينبغي إشراك الشباب والمجتمع المدني في صنع القرار، وتمكين الكوادر الجديدة من المشاركة في مؤسسات الدولة، ما يعيد الثقة الوطنية ويخلق حالة من التوازن بين السلطة والمواطنين.

إعادة ترتيب مؤسسات الحكم الفلسطيني لتصبح أكثر شفافية وفاعلية، مع إنشاء آليات رقابية حقيقية تضمن توزيع المساعدات والمخصصات الاجتماعية على أساس الحاجة الفعلية وليس المحسوبيات أو الولاءات السياسية

ثالثاً، يجب على السلطة الالتزام بخطة إصلاح واضحة للأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية، بما يعكس الالتزام بمعايير الدولة الحديثة ويطمئن المجتمع الدولي بجدية القيادة الفلسطينية.

وتشمل هذه الإصلاحات تحديث الأجهزة الأمنية لتصبح مؤسسات مهنية تركز على حماية المواطن والحفاظ على القانون، وتطوير النظام القضائي ليكون عادلا وشفافا، وتحسين أداء الإدارة العامة لتقديم الخدمات بشكل فعال وموثوق.

رابعاً، يجب استثمار الاعتراف الدولي الحالي في تحريك ملف الدولة على الأرض من خلال خطوات عملية نحو بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز الحقوق المدنية، والحفاظ على الأراضي الفلسطينية.

وبدلا من الاكتفاء بالرمزية السياسية يمكن للسلطة أن تستخدم الدعم الدولي لتطوير البنية التحتية، وتنمية الاقتصاد المحلي، وتعزيز قدرة المواطنين على الوصول إلى الخدمات الأساسية، ما سيعزز شرعيتها ويثبت أنها قادرة على قيادة مشروع الدولة الفلسطينية بفاعلية.

تاريخ السلطة الفلسطينية مليء بالإخفاقات في استثمار اللحظات الدولية المواتية، بدءاً من أوسلو، مروراً بانتفاضة الأقصى، وصولاً إلى الانقسامات الأخيرة، ما يجعل النجاح في هذه المرحلة غير مضمون. ولكن الظروف الحالية مختلفة نوعاً ما؛ فقد تغير المزاج الدولي، وارتفعت وتيرة الدعم الأوروبي والعربي للسلطة الفلسطينية، ما يجعل هذه اللحظة أكثر حسماً من أي وقت مضى.

وإذا تمكنت السلطة من استغلال الاعتراف الفرنسي والدعم الدولي المترتب عليه، وتطبيق الإصلاحات اللازمة داخليا، فقد تصبح هذه اللحظة نقطة تحول تاريخية تعيد بعث مشروع الدولة الفلسطينية، وتعزز مكانتها في المحافل الدولية، وتضع الأساس لسلام مستدام يضمن الحقوق الفلسطينية على الأرض ويعزز الاستقرار الإقليمي.

وأما في حال استمرار الجمود السياسي وعدم تنفيذ الإصلاحات، فإن المبادرة الفرنسية ستتحول إلى خطوة رمزية فقط، وستظل السلطة الفلسطينية أسيرة إخفاقاتها المتكررة، ما يترك القضية الفلسطينية عرضة لتقلبات السياسة الإقليمية والدولية، ويزيد من صعوبة تحقيق الدولة المستقلة.

وتتطلب هذه المخاطر من القيادة الفلسطينية إدراك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها في هذه المرحلة التاريخية، واستثمار كل الموارد والفرص المتاحة لتعزيز الوحدة الداخلية، وتحسين الأداء المؤسسي، واستعادة الثقة الدولية والشعبية.

 

اقرأ أيضا:

        • فلسطين بين الجغرافية… والسياسيّة

1