هشاشة التحالفات السياسية تعيد فرنسا إلى أزمة متجددة

ماكرون عالق بين اليمين المتطرف واليسار الراديكالي بعد استقالة رئيس الوزراء.
الثلاثاء 2025/10/07
أسرع استقالة منذ عام 1958

فرنسا تواجه أزمة سياسية جديدة بعد استقالة رئيس الوزراء سيبستيان لوكورنو بعد أقل من شهر على تعيينه، ما يضع الرئيس إيمانويل ماكرون أمام خيارات صعبة بين حل البرلمان أو تعيين رئيس وزراء جديد، في ظل ضغوط من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي وأزمة اقتصادية خانقة. فهذه التطورات تعكس هشاشة التحالفات السياسية الحالية وتعقيد القدرة على تمرير الإصلاحات المالية والاقتصادية الحيوية.

باريس - بعد 14 ساعة على الكشف عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة، قدم رئيس الوزراء سيبستيان لوكورنو استقالته الاثنين للرئيس إيمانويل ماكرون الذي قبلها، بعد أقل من شهر على تسميته في منصبه، ما يعمق الأزمة السياسية المستفحلة منذ قرار ماكرون حل الجمعية الوطنية (البرلمان) في يونيو 2024. وباستقالته بعد 27 يوما على تعيينه، أصبح لوكورنو رئيس الوزراء الذي أمضى الفترة الأقصر في رئاسة الحكومة منذ قيام الجمهورية الخامسة العام 1958.

وكان ماكرون كلّف لوكورنو، وهو أحد أبرز المقرّبين منه، بتشكيل الحكومة الثالثة في البلاد في غضون سنة. واستبق الوزير السابق للجيوش انهيار ائتلافه الهش بإعلان استقالته الاثنين. وقال لوكورنو في كلمة بعد إعلان الاستقالة إن “الظروف لم تكن متوافرة” ليبقى في منصبه. وأكد “تستمر الأحزاب السياسية باعتماد موقف كما لو أنها تتمتع بالغالبية المطلقة في الجمعية الوطنية” رغم أنه أعرب عن “استعداده لتسويات.”

وباتت الكرة في ملعب الرئيس الفرنسي. فهل يعمد إلى حل الجمعية الوطنية كما يطالب اليمين المتطرف، أو إلى الاستقالة كما يطالب اليسار الراديكالي، أو يختار رئيسا جديدا للوزراء سيكون الرابع منذ يونيو 2024، والسادس منذ إعادة انتخابه في مايو 2022؟ ويجد الرئيس الفرنسي نفسه أمام مرحلة حرجة في تاريخ حكومته، إذ تتقاطع الضغوط السياسية والاقتصادية لتضعه أمام خيارات محدودة لكنها حاسمة لمستقبل الاستقرار في البلاد.

ويتمثل الخيار الأول المطروح أمامه في حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وهو خيار يتيح إعادة تشكيل البرلمان بما يتوافق مع توجهاته السياسية، لكنه في الوقت ذاته محفوف بالمخاطر، إذ قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة مع احتمال صعود قوى اليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي بشكل أقوى، ما يزيد من الانقسامات السياسية ويؤجل سنّ السياسات المالية الضرورية لمعالجة العجز العام والنمو الاقتصادي البطيء.

وأما الخيار الثاني فيكمن في تعيين رئيس وزراء جديد يحظى بدعم كافٍ من البرلمان، وهو خيار يتيح استمرار الحكومة في أداء مهامها دون اللجوء إلى انتخابات جديدة، ويؤمّن نوعًا من الاستمرارية للسياسات الاقتصادية والمالية، غير أن تحديات هذا المسار تبقى كبيرة، خاصة مع البرلمان المشرذم الذي يضم أحزابًا قوية معارضة، ويزيد احتمال استمرار الجمود السياسي وتأخير الإصلاحات الحيوية.

ويطرح الخيار الثالث المعادلة الدقيقة بين الاستقرار والتجديد، إذ يُمكن للرئيس اختيار الحفاظ على حكومة قادرة على تمرير السياسات الأساسية مع إرضاء بعض الأطراف المعارضة، أو المضي في إعادة تشكيل جذري للائتلاف بهدف منح نفسه فرصة لتجديد الشرعية السياسية، وهو ما قد يحظى بقبول بعض الناخبين لكنه يحمل مخاطر صدام داخلي محتمل وتأثير سلبي على الأسواق المالية، خصوصًا في ظل أزمة ديون فرنسا.

◄ الضغوط السياسية والاقتصادية تضع إيمانويل ماكرون أمام خيارات محدودة لكنها حاسمة لمستقبل البلاد

وتترافق هذه الخيارات مع ضغوط مباشرة من اليمين المتطرف الذي يطالب بحل البرلمان فورًا، ومن اليسار الراديكالي الذي يدعو إلى تحرك برلماني لإقالة الرئيس نفسه، فيما يسعى الحزب الرئاسي إلى الحفاظ على الاستقرار السياسي بما يضمن تنفيذ خططه الاقتصادية والمالية. وبغض النظر عن الخيار الذي سيختاره، فإن تأثيره سيمتد إلى تحالفات القوى السياسية في البرلمان، إلى جانب انعكاساته المباشرة على الأسواق المالية.

وفي هذا السياق، تبدو المعادلة أمام ماكرون معقدة للغاية، إذ يجب أن يوازن بين إدارة الأزمة السياسية وإعادة الثقة إلى الحكومة، وبين ضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وفي الوقت نفسه مواجهة ضغط المعارضة واليمين واليسار، كل ذلك في ظل ظرف مالي واقتصادي حساس، يجعل أيّ قرار خاطئ قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، بينما يتيح القرار الصائب إمكانية إعادة ترتيب المشهد السياسي والاقتصادي الفرنسي بطريقة تعزز القدرة على مواجهة التحديات القادمة.

وعنونت صحيفة “لوموند” الفرنسية الاثنين “إيمانويل ماكرون وحيدا في وجه الأزمة.” وقال ميشال بارنييه رئيس الوزراء السابق الذي أسقطته المعارضة في الجمعية الوطنية في ديسمبر 2024 بعد ثلاثة أشهر على توليه منصبه “يحب أن نحافظ على هدوئنا ونفكر بالفرنسيين.” وتبدو المعادلة السياسية غير قابلة للحل وتترافق مع ظروف مالية كارثية إذ تبلع ديون فرنسا 3400 مليار يورو وتشكل 115.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.

وإضافة إلى بارنييه، واجه فرنسوا بايرو الذي تولى رئاسة الحكومة بين ديسمبر 2024 وسبتمبر 2025، وضعا مماثلا، إذ أطاح البرلمان بحكومته بعدما قدم مشروع ميزانية تقشف ينص على اقتصاد في النفقات قدره 44 مليار يورو.

وأدى الزلزال السياسي الجديد هذا إلى تراجع في مؤشر “كاك-40″ في بورصة باريس وارتفاع في معدل الفائدة على سندات الخزينة الفرنسية لعشر سنوات، ما وسّع الفارق مع المعدل الألماني الذي يشكل مرجعا. وتراجع سعر اليورو إثر إعلان الاستقالة في مقابل الدولار، كذلك أسهم المصارف الفرنسية. وقد بدأت الانقسامات تظهر في ائتلاف لوكورنو بعد ساعة تقريبا على إعلان قصر الإليزيه تشكيلته إثر مداولات استمرت ثلاثة أسابيع.

وكتب زعيم حزب الجمهوريين اليميني برونو روتايو الذي احتفظ بحقيبة الداخلية على إكس أن تشكيلة الحكومة “لا تعكس التغيير الجذري الموعود” ودعا إلى اجتماع لهيئات حزبه. وتكمن المشكلة بحسب مصادر عدة في عودة برونو لومير المفاجئة إلى الحكومة وتسميته وزيرا للجيوش بعدما كان وزيرا للاقتصاد بين عامي 2017 و2024، وهو منشق عن حزب الجمهوريين، ويرمز بالنسبة إلى اليمين إلى التجاوزات في الميزانية المسجلة في السنوات الأخيرة في ظل حكومات ماكرون.

ويرجّح أن تكون المشاكل الأخرى، الحجم الكبير لتمثيل حزب “النهضة” الرئاسي الذي نال عشر حقائب في مقابل أربع وزارات للجمهوريين. وندد اليمين المتطرف والمعارضة اليسارية لاسيما حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي، بكون 12 من أعضاء الحكومة الـ18 من الفريق الحكومي السابق.

وقالت مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف الاثنين إن “حل البرلمان ضرورة مطلقة” ورأت أن استقالة ماكرون هي “القرار الحكيم الوحيد.” وأما زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون فدعا الجمعية الوطنية إلى النظر “فورا” في مذكرة لإقالة ماكرون وقّعها نواب حزبه فرنسا الأبية فضلا عن نواب من كتل الخضر والشيوعيين.

وغالبا ما يتهم ماكرون الذي تشوب الفوضى أداءه الداخلي، بأنه المسؤول عن عدم الاستقرار السياسي الذي تشهده فرنسا منذ يونيو 2024. وجازف ماكرون يومها بالدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة في مسعى لتعزيز سلطته عقب تحقيق اليمين المتطرف فوزا كبيرا في الانتخابات الأوروبية، إلا أن هذه الخطوة نتج عنها برلمان مشرذم بين ثلاث كتل متخاصمة لا يملك أيّ منها غالبية مطلقة.

3