من التشخيص إلى التجريد: الزنايدي يعيد تشكيل الذاكرة التونسية
خديجة السويسي
تحت شعار “رحلة بين ألوان وأضواء 1975 – 2025″، يحتضن فضاء دار الفنون بالبلفيدير – تونس العاصمة، المعرض الاستعادي للفنان التشكيلي علي الزنايدي، في تجربة بصرية تحتفي بخمسين عامًا من العطاء الفني، يُعيد خلالها الزنايدي رسم ملامح الذاكرة التونسية الشعبية والثقافية والاجتماعية، في لوحاتٍ تراوح بين الواقعية التجسيدية والتجريد التعبيري، ضمن مغامرة استكشافية فنية تتنقّل بالمتلقي عبر أزمنة وأمكنة من تونس، بمبانيها وأسواقها وشخوصها وطقوسها، كما تتنقل به عبر رحلة فكرية وروحية تشكّلت في وجدانه.
هذا المعرض الذي يتواصل إلى غاية 30 أكتوبر الجاري، ليس مجرد استعراض لأعمال فنية، بل هو مغامرة بصرية عبر الزمن، يتنقل فيها الزائر بين أبعاد جغرافية وتاريخية مختلفة، حيث تمتزج مشاهد من العاصمة تونس، بأزقتها الشعبية وأسواقها، مع صور من الجنوب التونسي بخصوصياته المعيشية والاجتماعية، وذلك عبر لوحات تتراوح بين التجريد والتشخيص، وتمنح الفن التشكيلي التونسي بعدًا تأمليًا وإنسانيًا.
وفي تقديمه للمعرض، قال الزنايدي لوكالة تونس أفريقيا للأنباء “المعرض محطة لإبراز أهم أعمالي وآرائي ورؤيتي وتعبيري عن الفن التشكيلي، وكيف كان انتقالي من التشخيصية إلى التجريدية من خلال مواضيع تعزّ على قلبي، وهي الارتباط بالذاكرة والطفولة والمدينة التي تجمعني بها علاقة روحانية كبرى، نظراً لترعرعي فيها”.
رسم الفرح كما رسم البؤس. هكذا يمكن اختصار منهج الزنايدي الفني، إذ تحاكي لوحاته تفاصيل الحياة اليومية: لاعبو الورق في المقاهي، لقاءات المتقاعدين، استعدادات النساء للأفراح، الرقص الشعبي، وجماليات المعيش العادي.

يضم المعرض 66 عملاً، من بينها 20 لوحة تعود ملكيتها لإدارة الفنون التشكيلية ومتحف مقام، أُنجزت في فترات متراوحة بين أواخر السبعينيات والثمانينيات والألفية، إضافة إلى 46 عملاً من مقتنيات الفنان نفسه، أنجزها في الفترة من نهاية التسعينات إلى عام 2025، تشكل عصارة ربع قرن من الممارسة والتجريب (من سنة 2000 إلى 2025).
في كثير من أعماله، تبرز الطيور، والنساء، والأحصنة كعناصر رمزية. الفنان، الناشط في جمعية أحباء الطيور، يرى في هذه المخلوقات تمثيلًا لجمال الحياة، أما الأحصنة فترمز لحلم طفولته باقتناء حصان ومنزل، حلمٌ جسّده على القماش بألوان متنوعة.
بأسلوب فني يمزج بين الرسم والتزيين والقص واللصق والأشكال الهندسية، يستعرض الزنايدي حياته وهمومه، موثقًا حتى طرائف الطفولة، ومنها واقعة طرده من “حمّام النساء” عند بلوغه سنًّا معينة، وهي ذكرى لا تزال راسخة في ذاكرته، تحولت إلى عمل فني ذي طابع رمزي وشخصي.
ولد علي الزنايدي ونشأ في حي باب الجزيرة بالعاصمة، حيث تعايش مع جاليات أجنبية متعددة، ما أضفى على شخصيته بُعدًا كوزموبوليتيًا أثر في فنه، كما يقول، وقرّبه من الإنسان، والمباني، والضوء، والظل.
66
عملاً، من بينها 20 لوحة تعود ملكيتها لإدارة الفنون التشكيلية ومتحف مقام
بدأ شغفه بالرسم منذ الطفولة، وكان يتنقل من باب الجزيرة إلى مدرسة سيدي عزوز عبر أزقة المدينة العتيقة، تلك التي شكّلت خياله الفني عبر ما تحمله من تناقضات بصرية تجمع بين الطابع الشرقي والغربي.
تكوينه الفني انطلق فعليًا في المعهد العلوي، على يد الفنان الراحل نور الدين الخياشي (1918–1987)، الذي حبّب إليه الفن التشبيهي ومدرسة روما، وعمّق فيه الولع بالتراث التونسي من ملابس وأعياد ومظاهر اجتماعية. لكن التكوين الأكاديمي في مدرسة الفنون الجميلة، عقب دراسته للحقوق، فتح له آفاق الفن التجريدي، فبدأ رحلة جديدة في التعمق عبر قراءة تاريخ الفن والاطلاع على المدارس العالمية.
وعن التجريد الذي اختار أن يواصل فيه مساره الفني، يقول الزنايدي “الفن التجريدي جعلني أختصر رؤيتي للعالم دون خرافة أو تشبيه. الشكل يبقى شكلاً، والتجريد يختزل التشخيص ويجعلك ترى العالم بطريقة شمولية. إنه تفكير وتحليل للعالم”.
لا يفصل الفنان بين الفن ومجالات الفكر الأخرى، فهو يستشهد بـ”بيتاغور” كما يستشهد بـ”الجاحظ”، يتحدث عن علم النفس كما يتحدث عن التشكيل، ويغوص في الأساطير الإغريقية كما يغوص في ماضي تونس وحاضرها، مؤسسًا لفن متفاعل مع مختلف المرجعيات.
جسّد في أعماله كل ما رآه في الطفولة، من ألوان الثياب والغلال، إلى أصوات الأسواق والمقاهي والعربات، معتمدًا على الحس البصري والسمعي لتأويل الواقع الاجتماعي وإعادة صياغته تشكيليًا.
كان للزنايدي أثر كبير في بلورة الشخصية الفنية المعاصرة للفن التشكيلي التونسي، خاصة عبر مزجه التراث المحلي مع التجريد. وقد تأثر بالخطاب العروبي في فترة ما بعد الاستعمار، وسعى لتقديم رؤية مغايرة لما كانت تقدمه “مدرسة مدينة تونس”، التي يعتبرها منغلقة فنيًا ومرتبطة بموضوعات نمطية.

وفي هذا السياق، يقول الزنايدي عن رؤية جيله للفن التشكيلي المعاصر “جيلي حمل رؤية أخرى، مناهضة للانغلاق، وسعى لتكوين أجيال جديدة تساهم في الفنون البصرية والتجديد والنقد والكتابة”.
بالنسبة إليه، الفن رحلة لاكتشاف الذات وبناء عوالم بديلة، تعبر عن مشاعر الفنان ورؤاه وخلاصه الذاتي. أعماله المعروضة تحكي قصصًا متفرقة في شكلها، متماسكة في مضامينها الاجتماعية، إذ صوّر شح المياه، وأسواق الجنوب، والأعراس، وتجمعات النساء، بأسلوب ينقل الحدث اليومي إلى اللوحة.
ومن حيث الأدوات، استعمل الفنان الفرشاة، والخرقة، والإسفنج، ومواد طلاء متنوعة، بل ووظف أدوات غير تقليدية، معتمدًا على فكرة أن الفن ليس أداة فقط، بل تجربة.
يعتمد الزنايدي بشكل لافت على تقنية القص واللصق، مستخدمًا أوراق الجرائد والمواد القديمة، لإنتاج لوحات غنية بالرموز والمعاني. من أبرز أعماله “حنين المدينة”، وهي لوحة على القماش تتضمن أشكالاً معمارية، مرسومة بالقلم اللبدي فوق خلفية من الجرائد المكتوبة بالعربية والفرنسية، مضافًا إليها ألوان نابضة بالحياة.
لم يغب عن أعماله التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، مثل لوحته التي رسمها سنة 2012 ردًّا على الجدل حول مكانة المرأة في الدستور التونسي، فجاءت اللوحة احتفاءً بتعدد أدوار المرأة التونسية ومساواتها مع الرجل.
يُعرف الزنايدي بـ”فنان اللون الأزرق”، غير أن اللون البنفسجي بدأ يطغى على أعماله مؤخرًا، ومع ذلك، تظل لوحاته زاخرة بالألوان الأخرى كالأخضر والأحمر والوردي، لتبقى أعماله ناطقة رغم الصمت، ومتحركة رغم الثبات، ونابضة دون أن تمتلك قلبًا.