منطقة أمنية "مدنية" في غزة استنساخ لتجربة فاشلة في الضفة
غزة - في واحدة من أكثر تصريحاته تفصيلًا بشأن مستقبل قطاع غزة، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي بتل أبيب مؤخرا عن نية حكومته إنشاء “منطقة أمنية” تحيط بالقطاع، تُدار من قبل “إدارة مدنية” لا تحمل عداءً لإسرائيل.
ويُروَّج لهذا الطرح، الذي جاء في ظل استمرار الدعم الأميركي من إدارة الرئيس دونالد ترامب، باعتباره جزءًا من إستراتيجية إسرائيلية “لتأمين الحدود” و”منع عودة الإرهاب،” إلا أن خلفياته السياسية والتاريخية تطرح تساؤلات جدية حول قابليته للتنفيذ ومآلاته المتوقعة.
ويقول الباحث خليل جهشان في تقرير نشره المعهد العربي لواشنطن إن طرح نتنياهو ليس جديدا في جوهره، بل يبدو استدعاءً واضحا لتجربة إسرائيل في الضفة الغربية أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، حين حاولت تل أبيب فرض كيانات محلية تحت مسمى “روابط القرى” كبديل عن منظمة التحرير الفلسطينية.
الرهان الإسرائيلي في غزة يتجاهل تماما التجربة التاريخية، ليس فقط في الضفة، بل في غزة نفسها قبل عام 2005
ولم تكن هذه الكيانات، التي كانت تُقدَّم كأطر مدنية محلية مستقلة، أكثر من واجهات أمنية تابعة للاحتلال، وفشلت سريعًا في كسب أيّ شرعية شعبية، وسقطت بعد مقاومة مدنية وشعبية شديدة من المجتمع الفلسطيني. واليوم، يعيد نتنياهو تدوير هذه الفكرة ذاتها، ولكن في غزة.
ولا يمكن فصل الحديث عن “إدارة مدنية” بعد حرب دمرت أكثر من 70 في المئة من بنية القطاع وخلّفت الآلاف من القتلى والجرحى، فصله عن سياق أوسع من محاولات إعادة هندسة المشهد السياسي الفلسطيني من الخارج، وبالقوة.
ولا تريد إسرائيل، كما يبدو من تصريحات نتنياهو، حماس في غزة، ولا تريد عودة السلطة الفلسطينية، وترفض أيّ شكل من أشكال الإدارة الفلسطينية المستقلة إلا إذا كانت خاضعة كليًا لاحتياجاتها الأمنية وشروطها السياسية.
ومن هنا، يظهر نموذج “المنطقة الأمنية المدنية” كصيغة هجينة: كيان يُفترض أنه غير عسكري، لكنه موجود لحماية الأمن الإسرائيلي، ويُفترض أنه مدني، لكنه لا يُسمح له بممارسة سيادة حقيقية.
ويتجاهل الرهان الإسرائيلي على فرض مثل هذا النموذج في غزة تمامًا التجربة التاريخية، ليس فقط في الضفة، بل في غزة نفسها خلال سنوات الاحتلال المباشر قبل عام 2005. فقد فشلت كل المحاولات الإسرائيلية لتشكيل “مجتمعات موالية” قادرة على ضبط الأوضاع محليًا بالنيابة عن الاحتلال، بل إن هذه الكيانات كانت دائمًا محط رفض شعبي شامل، وانتهت بانهيار سياسي وأمني.
وبعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005، ظلت السيطرة الأمنية والسياسية غير مستقرة، إذ اتسمت بالفوضى والصراع الداخلي بين الفصائل الفلسطينية، خصوصًا بين حماس وفتح، بمواجهة مباشرة على السلطة. ورغم أن الانسحاب الإسرائيلي كان خطوة باتجاه إنهاء الاحتلال الرسمي للقطاع، إلا أن الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على غزة استمر بشكل مكثف، ما شكل بيئة ملائمة لتفاقم الأزمات الإنسانية والسياسية، وعزز دور حماس كقوة سياسية وعسكرية.
ومن ناحية أخرى، كانت تجارب إسرائيل السابقة في محاولة تشكيل كيانات محلية مدنية، مثل “مجلس غزة المدني” الذي تم تشكيله خلال الحروب السابقة، مليئة بالإخفاقات، إذ اعتبرها السكان مجرد مظاهر شكلية لا تمثل مطالبهم أو طموحاتهم، ولم تحقق أيّ استقرار. بالمقابل، عمّقت هذه المحاولات الشعور بالاستياء والغضب، ودفعت باتجاه المزيد من التصعيد والمقاومة.
وبعيدا عن التاريخ، فإن الظروف الحالية في غزة تجعل فرض أيّ كيان محلي خاضع لإسرائيل أمرًا بالغ الصعوبة. فالسكان الذين خرجوا من تحت ركام الحرب الإسرائيلية، لا يبحثون عن “إدارة مدنية” تفرضها قوة محتلة، بل عن إنهاء شامل للحصار والدمار، وضمانات دولية لحمايتهم.
بعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005، ظلت السيطرة الأمنية والسياسية غير مستقرة، إذ اتسمت بالفوضى والصراع الداخلي بين الفصائل الفلسطينية
وفوق ذلك، فإن أيّ “منطقة أمنية” تخضع عمليًا لتقديرات الجيش الإسرائيلي، لا يمكن أن تُفهم كترتيب مدني، بل كامتداد لواقع الاحتلال بصيغة مموّهة.
ومن جهة أخرى، فإن المجتمع الدولي، رغم تباين مواقفه من الحرب، لا يزال يطالب بترتيبات انتقالية ذات مصداقية في غزة، تشمل تمثيلًا فلسطينيًا مشروعًا، وإشرافًا دوليًا أو عربيًا، وليس أجهزة محلية تابعة أمنيًا لإسرائيل.
وحتى بعض شركاء تل أبيب التقليديين – مثل فرنسا وبريطانيا – عبّروا عن تحفظات واضحة تجاه خطة الاحتلال طويلة المدى.
ومن الواضح أن إعلان نتنياهو عن مشروع “المنطقة الأمنية المدنية” ليس فقط محاولة للتأثير على وقائع الميدان، بل أيضًا رسالة انتخابية موجهة للجمهور الإسرائيلي المحافظ الذي يخشى عودة حماس أو استمرار الحرب إلى ما لا نهاية. لكنه أيضًا استكمال لمحاولات فرض وقائع سياسية جديدة على الفلسطينيين دون عملية تفاوضية، وتحت غطاء أمني خالص.
وبالتالي، يبدو مشروع “المنطقة الأمنية المدنية” في غزة محاولة مكشوفة لإحياء نموذج أثبت فشله الذريع قبل أربعين عامًا، وتجاهلًا ممنهجًا لمطالب الفلسطينيين وتوصيات المجتمع الدولي. فكما سقطت “روابط القرى” في الضفة الغربية تحت ضغط الرفض الشعبي، من المرجح أن تلقى أيّ صيغة مماثلة في غزة المصير نفسه – إن لم يكن بسرعة أكبر – خاصة في ظل واقع الحرب والدمار وانعدام الثقة الكامل بين السكان والاحتلال.
وفي النهاية، لا يمكن فرض الشرعية من الخارج، ولا يمكن بناء سلام مستدام على أسس من الهيمنة والإقصاء. وما لم تعِ إسرائيل هذا الدرس، فإنها تُعيد فقط إنتاج الفشل، هذه المرة بغطاء “مدني”.