"معركة تلو الأخرى".. تأملات عميقة في الثورة حين تصطدم بالسلطة

أندرسون يقدم دراما سياسية تتقاطع مع عنف الهوية والذاكرة.
الثلاثاء 2025/10/21
صراع الأجيال في زمن الاضطراب

في زمن تتقاطع فيه السياسة مع الفن، وتتشابك خيبات الثوار ومآسي الشعوب، يعود المخرج بول توماس أندرسون بفيلم جريء ومثير للجدل يحمل عنوان "معركة تلو الأخرى"، وهو ليس مجرد عمل سينمائي، بل صرخة فنية في وجه واقع مأزوم، يستلهم الماضي ليقرأ الحاضر، ويضع أميركا أمام مرآة تاريخها المضطرب، بين الحرية والخوف، الثورة والانكسار. يُقدّم الفيلم مشاهد مشحونة بالتوتر والأسى، حيث تتقاطع الحركات الثورية مع العسكرة والانهيار الأخلاقي، من خلال شخصياتٍ ممزقة بين المثالية والحقيقة. فهل نجح أندرسون في صنع فيلم يعكس زمن الأزمات الكبرى؟ وهل يستحق مكانته كأحد أبرز أعمال العام؟

فيلم قصته اقتباس من رواية” فينلاند” للكاتب الأميركي توماس بينشون، كتبت عام 1990 عن الحركات الراديكالية في ستينات القرن الماضي. أخرج الفيلم بول توماس أندرسون في معالجة سينمائية تدمج بين قضايا الثوار وخيبة اليسار والفساد في المؤسسة العسكرية والتهم السياسية والحركات اليسارية، هي بعض العناصر التي تشكل “معركة تلو الأخرى” الفيلم الجديد لأندرسون، المخرج الذي لا يحتاج إلى تقديم ويُعرف بأعماله التي تتحدث عن نفسها، ومنها رائعته “ماغنوليا” (1999). يثير طاقم الممثلين رفيعي المستوى وقيمة الإنتاج الرائعة لما هو أغلى فيلم في حياته المهنية السؤال: هل كان كل هذا الجهد يستحق كل هذا العناء؟

يقود البطولة ليوناردو دي كابريو في دور بوب فيرغسون، ثوري سابق راديكالي وأب شغوف، تتغيّر حياته جذريًا عندما تُختطف ابنته ويلا (تشيس إنفينيتي) على يد العقيد لوكجو (شون بن)، خصمه اللدود من الماضي. في محاولة يائسة لإنقاذها، يُجبر بوب على مواجهة جراح قديمة، ويعيد الاتصال بزملائه القدامى في النضال.

معًا يخططون لمواجهة الخطر الداهم الذي يمثله العقيد لوكجو المتطرف، مستندين إلى مكرهم، وخبراتهم السابقة، وإستراتيجيات العمل السري. تمزج القصة بين الحركة والتشويق والرغبة في الخلاص، بينما يخوض بوب معركته الكبرى: استعادة ابنته، والتصالح مع تاريخه الشخصي والسياسي.

الفيلم يثير أسئلة غير مريحة حول الهوية الأميركية، واستخدام القوة، والذاكرة التاريخية، ودور المواطن في مواجهة السلطة
الفيلم يثير أسئلة غير مريحة حول الهوية الأميركية، واستخدام القوة، والذاكرة التاريخية، ودور المواطن في مواجهة السلطة

الحياة سلسلة من المعارك، بعضها أشدّ صعوبة من بعضها الآخر، تُقدَّم بصور وحشية تُجسِّد التجريد من إنسانيتنا من حولنا. مشاكل خطيرة تمّ تطبيعها، وفي خضم الصراع الأبدي بين الخير والشر تبرز الكراهية كالرابح الأكبر، ويبدو أن الخوف، شريكها، كان مسؤولًا عن إسكات أولئك الذين يمتلكون القدرة على الاحتجاج، والقوة للمثابرة في النضال. في ظل هذا المناخ السياسي والاجتماعي الكئيب تنطلق أحداث “معركة تلو الأخرى” بدفعة قوية، توفّر لنا في الوقت ذاته بصيصًا خافتًا من الأمل. يُصبح معسكر احتجاز للمهاجرين، قرب الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مسرحًا لاندلاع ثورة دبّرتها المجموعة المعروفة باسم “فرنسي 75″، والتي من بين أعضائها بيرفيديا بيفرلي هيلز (تيانا تايلور) وبوب (ليوناردو دي كابريو). أصبحت أفعالهم التمرّدية هاجسًا رئيسيًا للعقيد ستيفن لوكجو (شون بن)، الذي أقسم ألّا يرتاح حتى يقضي عليهم، سعيًا للقضاء على أيديولوجيتهم نهائيًا. لكن الأمور تتعقّد بعد القبض على بيرفيديا أثناء إحدى مهامها، ما يضع بوب وابنتها في موقف هشّ وضعيف.

من أجل حماية المولودة الجديدة يختار بطل الرواية اتباع تعليمات رفاقه في المقاومة، ويهرب إلى مجتمع معزول، حيث يتّخذ كلاهما هويّات جديدة ويجدان ملاذًا آمنًا. تمرّ السنين، ويواصل العالم تدمير نفسه، فيما يدفع عدم اليقين وخيبة أمل الثوري بوب نحو الانحدار. خيبة الأمل من النتائج الفارغة التي أفضى إليها نضاله، الممتدّ لأكثر من 15 عامًا، أغرقته أكثر في عالم الإدمان. كان خلاصه الوحيد هو ابنته ويلا التي دفعه حبّه لها إلى أن يكون رجل عائلة أفضل. عاطفة سيتم اختبارها حين تختفي ابنته المراهقة دون أن تترك أثرًا. فيلم يجسّد معركة مثيرة، شعاره: “لا للقمع والاستبداد”. إنه ملحمة عن الخير والشر، والعنف والسلطة، والحقوق غير القابلة للتصرف، ومكافحة الظلم. كما أنه قصة حب أيضًا. يتناول الفيلم إخفاقات الماضي والحاضر، لكنه يتمسّك بوعد المستقبل. إنه موجّه ببراعة، وهذا ما يجعله مثيرًا للتفكير.

وتبدأ القصة قبل حوالي 16 عامًا، خلال فترة اندفاع بوب المتفجرة مع مجموعة ثورية راديكالية. وعلى الرغم من أنها غامضة في التفاصيل، لا يُفصّل أندرسون أيديولوجيتها الثورية؛ فمثل شخصياته، يفضّل عمومًا الانتقال من النظرية إلى العمل. نقطة الارتكاز في القصة هي قصة الحب بين بوب وبيرفيديا، وهي عضوة جذابة ومؤثرة في المجموعة، وتتمتع بشجاعة لا هوادة فيها. في البداية يتبعها بوب بفارغ الصبر أثناء هجوم المجموعة على مركز احتجاز للمهاجرين. تحت جنح الليل قام الثائرون الآخرون بنزع سلاح الحراس العسكريين وإطلاق سراح حشد من الرجال والنساء والأطفال. وهناك أيضًا، تلتقي بيرفيديا لأول مرة بالعقيد لوكجو، ذي قصة الشعر الغريبة، والذي تهزمه بسهولة بمسدس.

لا يذكر المخرج أندرسون أسماء، ولا يشير إلى أي شخصية سياسية حالية. ومع ذلك، في حوالي عام 2009، وهو العام الذي بدأت فيه ولاية باراك أوباما الأولى، استولت حركة “الفرنسي 75” على مركز الاحتجاز. يشعر أعضاء المجموعة بالابتهاج بالهجوم، متحمسين لنجاحهم؛ “تحيا الثورة!” يصرخ بوب وهم يفرّون، صرخة حاشدة يتردد صداها. هو وبيرفيديا يسرقان البنوك، وينجبان ابنة، ثم تختفي بيرفيديا بعد اعتقالها واغتصابها من قبل العقيد النازي ستيفن لوكجو، ووشايتها برفاقها. كل شيء ينهار، وينتهي الأمر ببوب تائهًا، مستسلمًا لخيبته. بعد أن اختبأ لسنوات، يعيش بوب الآن مع ابنته ويلا في منزل بشمال كاليفورنيا (مما لا يثير الدهشة). هناك، يشرب الكثير من الكحول ويدخن الكثير من الحشائش، مع دخان يطفو حول وجهه المرتبك دائمًا. اختفت حماسته، وكذلك بيرفيديا، التي غادرت منذ فترة طويلة. لتمضية الوقت، يشاهد فيلم بونتيكورفو لعام 1966 “معركة الجزائر”، ويكرر كلمات السيناريو حول نضال الجزائر من أجل الاستقلال.

حكاية ثائر هارب، وابنة تبحث عن المعنى
حكاية ثائر هارب، وابنة تبحث عن المعنى

في حاضر الفيلم يعيش مختبئًا في منطقة ريفية مع ابنته المراهقة، التي تطمح إلى حياة بعيدة عن ماضي والديها العنيف. لكن ظهور رجل عسكري (شون بن)، مهووس بالعثور عليه، يعيد إحياء أشباح زمنٍ كان يبدو مدفونًا.

يتكوّن “معركة تلو الأخرى” من جزأين مختلفين تمامًا. الأول هو مقدمة واسعة تدور أحداثها أثناء صعود مجموعة ثورية، وكيف تفعل كل ما يلزم لتحقيق أهدافها. إنها مرحلة رئيسية لفهم دوافع أبطالها بشكل أفضل، ولكن من الناحية السردية البحتة يمكن القول إن الأمر يستغرق بعض الوقت للانطلاق. ومع ذلك، يتم تعويض ذلك من خلال خلق شخصيات فيها الكثير من الإثارة. وبمجرد وضع الأسس تقفز “معركة تلو الأخرى” عدة سنوات إلى الأمام، وعندها يبدأ كل شيء. بالطبع، يتجنب أندرسون الاندفاع دون داع، ويسمح للتراكم بالتدفق بشكل طبيعي، حتى يصبح الفيلم مزيجًا من المطاردة المستمرة والرحلة الأبدية إلى الأمام.

بطريقة ذكية يقوم السيناريو الذي كتبه أندرسون بتكييف المواد الأدبية بحرية وتحديثها ليقدم قراءة معاصرة للمشهد السياسي المتشنج في الولايات المتحدة، مع التركيز على الاعتقالات الجماعية للمهاجرين، وانتشار خطاب الكراهية، والمواقف الراديكالية لكلا المعسكرين السياسيين. إنه عمل مذهل يظهر مرة أخرى موهبة أندرسون الرائعة كراوٍ، يؤدي إلى ذروة مليئة بالتوتر والشعور، بالإضافة إلى طرح رسائل مثيرة للاهتمام تتعلق بإزالة الغموض عن الحركات الثورية وجودة تأليهها كأبطال ليسوا كذلك.

بطريقة ذكية يقوم سيناريو الفيلم بتكييف المواد الأدبية بحرية وتحديثها ليقدم قراءة معاصرة للمشهد السياسي المتشنج في الولايات المتحدة

عمل أندرسون في الإخراج رائع أيضًا، حيث يجمع بين سينما الحركة في السبعينات ورؤية مؤلفة مليئة بالإبداع، ما يترك مشاهد لا تُنسى، مثل المطاردة على الطريق الصحراوي أو الغارة على منزل سينسي وسط الفوضى الليلية في الخلفية. هذه المشاهد البصرية والسردية ترسخ مكانة المخرج (أندرسون) كأحد أفضل صانعي الأفلام المعاصرين، وعمله سيكافأ بالتأكيد بترشيحات متعددة في موسم الجوائز القادم. فضيلة أخرى لا جدال فيها هي طاقمه التمثيلي بقيادة ليوناردو دي كابريو، الذي يسيطر على الشاشة بشخصيته. يمتلك بطل الحكاية سجلات مختلفة تتراوح بين ثوري ملتزم بالقضية الاجتماعية وشخصية أب مهزوم، منغمس في حالة مستمرة من جنون العظمة نتيجة لاستهلاك الماريجوانا، وهي تغييرات ملحوظة يجسدها دي كابريو ويصل بها إلى مستويات كبيرة من العاطفة في الثلث الأخير من القصة. بجانبه تقدم الشابة تشيس إنفينيتي أداءً جيدًا في دور ويلا، وتفرض نفسها كوجه جديد. كما يبرز أيضًا الممثل بينيشيو ديل تورو المضحك في دور سينسي سيرجيو.

لكن الانطباع الأكثر تميّزًا تركته الممثلة تيانا في دور بيرفيديا بيفرلي هيلز، بأداء مشحون بالقوة الدرامية التي تتجاوز الشاشة وتبقى مع المشاهد رغم وقتها المحدود في الحبكة. أما الممثل شون بن في دور العقيد لوكجو، وفي سن الـ65، فيتألق بدور شرير وحشي يمثل السلطة البوليسية القمعية. يصبح هذا الضابط المتطرف، بقصة شعره السخيفة، ومشيته البشعة، وتشنجاته اللإرادية التي لا تُحصى، وإشاراته المبالغ فيها، وشخصيته المهوسة بالأنانية، واحدة من أكثر الشخصيات البغيضة التي شوهدت في السينما منذ فترة طويلة.

الفصل الأول: الثورة. يمكن اعتبار الثلث الأول من الفيلم أسوأ جزء من القصة، ولكن هذا فقط لأنه يسعى جاهدًا لتقديم الشخصيات التي ستقودنا إلى المعركة بشكل طبيعي. تمكن ملاحظة القوتين اللتين ستدخلان في صراع طوال الفيلم بسرعة: من ناحية، هناك الثوار بقيادة بيرفيديا بيفرلي هيلز الجريئة، التي أدتها تيانا تايلور بشكل رائع، ومن ناحية أخرى، ميليشيا اليمين المتطرف بقيادة ستيفن لوكجو الخطير، الذي أدى دوره شون بن بطريقة استثنائية أيضًا. خلال هذا الفصل الأول، لا يفقد الفيلم سرعته، إذ مع المونتاج المستمر لعمليات السطو والصراعات، يمر الفيلم حرفيًا بـ”معركة تلو الأخرى”، محافظًا على اندفاع اللحظة ونقلها ببراعة. ينفذ أندرسون أسلوبه الشهير في تصوير الشارع، ويأخذه إلى لحظات من الحركة والجريمة التي تذكرنا بأعمال سكورسيزي في التسعينات.

الفصل الثاني: كوميديا مع شرح الشخصيات والسياق. تنتقل “معركة تلو الأخرى” مباشرة إلى قلب الحبكة في فصلها الثاني. هنا يبرز ليوناردو دي كابريو مع بداية استسلامه وشعوره باليأس، مصحوبًا بلمحات من المرح. قد تكون هذه من أكثر الشخصيات تسلية في مسيرته المهنية، أو على الأقل منافسًا لدوره في “ذئب وول ستريت”. الفصل الثاني هو أفضل جزء في الفيلم، ويُعد من بين أفضل ما قُدم في السينما هذا العام. تتيح سلسلة المواقف والمشاهد الكوميدية تجربة بصرية ممتعة. كما يبرز في هذا الجزء الممثل بينيشيو ديل تورو، الذي يشكل إضافة قوية ومكمّلة للقصة. تعكس هذه الإضافة أن أندرسون يمتلك عينًا ثاقبة لفريق التمثيل، وغالبًا ما يختار بدقة الممثلين الذين يؤدون هذه الشخصيات الرائعة.

صرخة فنية ضد السلطة الغاشمة
صرخة فنية ضد السلطة الغاشمة

الفصل الثالث: على الرغم من أن الجزء الأخير من الفيلم يتباطأ بشكل واضح، إلا أن الخاتمة تقدم لحظات تستحق الانتظار. في الواقع “معركة تلو الأخرى” هو فيلمان في فيلم واحد. في الجزء الأول، يحكي بول توماس أندرسون عن حياة الشاب بوب المثالي، الصبي المستعد لفعل أي شيء من أجل الثورة، والذي يتبع القائدة الحقيقية (بيرفيديا). بين الطلقات النارية والمطاردات وقنابل المولوتوف، يقدم المخرج قصة حب مثيرة للاهتمام تدور حول الرغبة والحرية والخسارة كمواضيع مركزية. البداية مفاجئة، وتفتقر إلى تركيز واضح على الحبكة، حيث يكرر المخرج صيغة فيلمه الأخير “بيتزا عرق السوس”، وتحمل الشخصيات ثقل الفيلم أكثر من الحبكة نفسها، ما يجعل البداية تبدو مترددة وطويلة بعض الشيء. ينسج أندرسون شبكة من المواقف التي رغم كونها مسلية ومثيرة للاهتمام تصبح معقدة ومتشابكة أكثر. ثم تأتي قفزة الزمن. بعد 16 عامًا نجد بوب، أو “غيتو بات”، رجلًا معتزلًا الحياة السياسية ويعتني بابنته ويلا. لقد ترك الثورة وراءه، لكن ويلا، الابنة التي تمثل الأمل والجيل الجديد المتمرد، ترى الثورة ضرورة وليست خيارًا. تظهر من خلال علاقتها المتوترة مع أبيها صراع الأجيال حول السلطة والحرية والهوية.

عندما يظهر العقيد لوكجو، رمز السلطة البوليسية القمعية، كعدو قديم وعنصري ينبعث من ضباب الماضي تتخذ “معركة تلو الأخرى” منحى جديدًا أكثر تركيزًا. يتحول الفيلم بشكل واضح نحو إثارة سريعة الخطى. منذ تلك اللحظة، يلقي أندرسون بنفسه كاملاً في عمل مبهر، حيوي، مضحك وشاف، فيلم صرخة حقيقية في وجه الحرب والثورة. إنه هجاء قوي للتطرف، يدعو إلى الحرية الجماعية في مواجهة الاضطهاد الخانق لنظام فاسد، وتكريم للثوريين الذين قاتلوا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبنزين للأجيال الجديدة.

يقدم الفيلم تأملات عميقة في التمرد في مواجهة القمع الحكومي، وقوة الأسرة والمجتمع في أوقات الاضطراب، يمزجها مع مشاهد مطاردات السيارات، وإطلاق النار، وعمليات السطو على البنوك، والحصار الحضري. يروي الفيلم حقبة معاصرة أو مستقبلية يبدو فيها أن كل بوصلة قد انحرفت، حتى أن الثوريين الإنسانيين لم يعودوا يتذكرون مفاتيح الوصول أو الإحداثيات للهرب. يتناول الكفاح من أجل الحقوق المدنية، والإرث المناهض للمهاجرين، والعنف الحكومي، والتطرف اليساري، وتفوق البيض… كل هذا وأكثر، كما هو الحال في أميركا والعالم اليوم.

يبني بول توماس أندرسون سيناريو ينتقل بسلاسة بين الدراما الحميمية والسينما السياسية وأفلام المؤامرة. لا يتجنب الفيلم معالجة قضايا مثل العنف المؤسسي، وخيبة الأمل في النظام، والعواقب الشخصية للانشقاق السياسي. فيلم “معركة تلو الأخرى” لا يروي مجرد قصة خيالية فحسب، بل هو جزء من تقليد سينمائي يشكك في السياق الاجتماعي والسياسي الراهن في الولايات المتحدة.

بذكاء، نقل المخرج الإعداد الزمني من رواية “فينلاند”، التي كانت مصدر إلهام للسيناريو، وفرض أندرسون شخصيته إلى حد كبير على شخصية بات، المعروفة أيضًا باسم بوب فيرغسون، الثوري الفاشل الذي يعيش الآن بهوية مزيفة في مكان ناءٍ على الحدود مع المكسيك. هناك، يحاول آلاف الأشخاص على شفا اليأس الوصول إلى “الحلم الأميركي”، الذي تحوّل عامًا بعد عام إلى كابوس في معسكر عسكري يشكل فضاءً يخنق كل محاولة للهوية، من الانحراف عن الاحترام إلى الممارسة البرجوازية الموحدة.

تُجسد السينما هنا عملاً من أعمال المقاومة، واستخدام الفيلم كإشارة إلى عالم خيالي بعيد، ضائع في ضباب الزمن لكنه ما زال موجودًا، مستعدًا لاختراق أجيال جديدة، لإقناعها بعدالة النضال، مهما كان وحشيًا، من أجل الحرية.

السخرية حاضرة، لكنها لا تخلّ أبدًا بالمعقولية. يسخر الفيلم من الجهاز العسكري، ومن الآلية البيروقراطية، ومن منطق السلطة، دون أن يغفل إنسانية شخصياته. ومن أبرز الأحداث الأخرى في الفيلم تصويره للحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، التي تُقدَّم كمساحة صراع دائم. المشاهد هناك صريحة، مشحونة بالتوتر، وفظة بشكل يُحيل إلى الحقائق الراهنة.

ويثير الفيلم أسئلة غير مريحة حول الهوية الأميركية، واستخدام القوة، والذاكرة التاريخية، ودور المواطن في مواجهة السلطة. وفي أزمنة الاستقطاب تُقدَّم رؤية أندرسون كنوع من الاستفزاز، أو كنظرة نقدية نابعة من داخل النظام السينمائي ذاته. إنه فيلم يسعى إلى التغيير، وإلى القطع مع الإرث القديم، سواء أكان يسارًا فوضويًّا أم يمينًا عنصريًّا.

الخلاصة: المخرج توماس أندرسون يصنع فيلمًا يتشكّل ليكون بالفعل أحد أهم أفلام العام. مزيج من الهجاء والدراما والنقد السياسي، في قلب النقاش الثقافي الراهن. الفيلم يكشف أميركا المعاصرة: الرقابة، الشرطة، الانقسامات، فقدان الثقة بالسلطة، وعودة الشعبوية. لكنه أيضًا يحمل بعدًا إنسانيًّا عامًا، ويشير إلى أننا جميعًا نعيش “معركة تلو الأخرى” مع أنظمتنا، مع أجيالنا، ومع ذواتنا. “معركة تلو الأخرى” هو بمعنى آخر ثورة بعد ثورة ضد اليمين المتطرف والفاشية في زمننا الحالي.

9