مدرسة "الفلاح" بجدة تتخطى المئة عام في صناعة الذاكرة والحاضر
جدة (السعودية)- بين أزقة جدة التاريخية ولد الحرف، وانطلق الفلاح هنا، في قلب مدينة صنعتها التجارة والحج والبحر، تظل جدة التاريخية أكثر من حي عتيق فهي ذاكرة مدينة تختزن حكايات السور والأبواب والأسواق، ومسرح للتنوع الذي صاغ الشخصية المدينية للبحر الأحمر.
ومن بين هذا الزخم الثقافي ولدت حكاية التعليم حين قامت مدرسة متواضعة في أزقتها، سرعان ما تحولت مع الأيام إلى معلم بارز وشاهد حي على مسيرة لا تزال تتجدد مع عودة الطلاب كل عام إلى مقاعد الدراسة بعد العطلة الصيفية، يعود المشهد ليتقاطع مع جذور الحكاية في مدرسة بدأت صغيرة، وصارت مع الأيام معلما ومرجعا وأثرا حيا في مسار التعليم.
تقع مدرسة “الفلاح” على مقربة لصيقة من باب مكة وسوق البدو الشهير، موقع ليس تفصيلا جغرافيا بل اختيار واع لقلب الحركة الاجتماعية والتجارية في جدة آنذاك، وحملت منذ لحظتها الأولى رسالة واضحة وهي أن التعليم يفتح الأبواب ويصنع الفرص، وسميت “الفلاح” تيمنا بالنداء المتكرر في كل أذان، نداء يختصر الغاية “حي على الفلاح” ومنذ تأسيسها ظلت بدعم الدولة والمجتمع تؤدي دورها التربوي والتعليمي في مكة المكرمة ومدينة جدة إلى يومنا هذا.
العمارة هنا ليست زينة، هي جزء من المنهج، مبنى الفلاح بدوريْن من الحجر المنقبي ومسقف بالخشب مصمم على مسقط أفقي يأخذ هيئة حرف U في الإنجليزية
بدأت القصة في غرفة مستأجرة وكان عدد الطلاب ستة فقط، يتعلمون القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة بين المغرب والعشاء، اختيار توقيت محسوب يراعي ظروف الأسر وسلامة الصغار، ويتفادى تعقيدات الاشتراطات الرسمية قبل اكتمال إجراءات الترخيص، كما جرى تنظيم مرافقة للطلاب ذهابا وإيابا بموافقة أوليائهم، في لفتة مبكرة للأمن المدرسي والمسؤولية المجتمعية.
ومع اتساع الفكرة، تبرّعت الأسر في مشهد يختزل إيمانهم بدور التعليم، هنا تحديدا تلتبس التواريخ في المصادر غالبها يثبت عام 1905 تاريخا لتأسيس المدرسة، بينما يشير النقش الأثري على الباب الجنوبي بحساب الجمل بأن البداية في ذلك المبنى تعود إلى 1906، هذا الفارق ليس تفصيلا، بل شاهد على مدرسة سبقت نص الرخصة، واشتغلت على الأرض بروح المبادرة.
ولأن الفكرة أقوى من المكان الواحد، توسعت المدرسة بشراء مبان مجاورة، ورفدت مواردها بأوقاف منازل وأراض تصرف عوائدها على تسيير العملية التعليمية، ووصلت النفقات سنويا نحو ثلاثة عشر ألف جنيه ذهبي، في رقم يعكس وعيا مبكرا بأن التعليم مشروع اقتصادي اجتماعي يحتاج تمويلا مستداما.
العمارة هنا ليست زينة، هي جزء من المنهج، مبنى الفلاح بدوريْن من الحجر المنقبي ومسقف بالخشب مصمم على مسقط أفقي يأخذ هيئة حرف U في الإنجليزية، جناحاه الغربي والشرقي يضمان قاعات الدرس التي تفتح على فناء داخلي عبر شرفة محمولة على دعامات حجرية، فيما يحتضن الجناح الجنوبي أربع غرف في كل طابق، تغيرت بعض ملامح الواجهات مع الزمن، لكن التخطيط العام حوفظ عليه، لتبقى روح المكان واضحة في خطه الإنشائي وعلاقته بالفناء كفضاء تربوي مفتوح.
الواجهة الجنوبية وهي الرئيسة تنخفض عن مستوى الشارع وتتوسطها كتلة مدخل بعقد نصف دائري، وتعلو الجناح قبة بصلية على الطراز الهندي، تتتابع فوقها كور نحاسية بأحجام مختلفة، وتزين الأركان قباب صغيرة تمنح المبنى شخصيته البصرية بين مباني الحارة، أما الواجهتان الشرقية والغربية فتكرران إيقاع الشبابيك المستطيلة ذات الأقواس “الموتور” وحشوات الخشب المزخرف، مع مدخل جانبي في الطرف الشمالي الشرقي وبئر قديم كان يؤمّن الماء، هذا البناء بخياراته المحلية والدخيلة، يشرح وحده كيف التقت جدة بالعالم وكيف صاغت مدرسة “الفلاح” بيئتها التعليمية على لغة المكان.
وليست “الفلاح” مدرسة فحسب، فهي سياق اجتماعي ومعرفي صنع أجيالا من رجالات جدة، وأدخل التعليم إلى صلب الحركة اليومية للحارة والسوق والبيت، هذا ما جعلها معلما من معالم المدينة، وذاكرة مشتركة يتقاطع عندها الإداري والتاجر والمثقف والمعلّم والطالب، هي إرث تعليمي من جدة التاريخية، منارة للحالمين ومحرك للتقدم ووصف لا يجامل، لأن أثرها لا يزال قائما في شبكات التعليم الأهلي والرسمي، وفي الامتداد المؤسسي الذي بلغ مكة المكرمة وجدة معا.
اليوم، والطلاب يعودون إلى الصفوف في الأسبوع الأول من العام الدراسي، لا تبدو “الفلاح” ذكرى معلقة على جدار قديم، بل نص مفتوح يتجدد في كل صباح، من غرفة صغيرة بستة تلاميذ ودرس قرآن بين المغرب والعشاء، إلى قباب نحاسية، عبر تمويل أهلي وأوقاف سخية وتوسعات محسوبة، هذه مدرسة بدأت “ببدر قد بدا”، وما زالت، بواقعية المنهج وحكمة المكان، تضيء الطريق.