محمد علي علوان.. صوت قصصي سعودي رائد
لم يكن محمد علي علوان قاصا سعوديا عاديا، بل من أبرز الأصوات السردية في الأدب السعودي المعاصر، حيث تميز بأسلوبه العميق ولغته الشاعرية التي تمزج بين الواقع والخيال، وتناولت أعماله قضايا الإنسان والهوية والعلاقات الإنسانية، وترك بصمة واضحة في تطوير فن القصة القصيرة في المملكة.
يُعتبر محمد علي علوان (1949 – 2002) من أبرز روّاد القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، ومن الأسماء التي أسست وشكّلت ملامح هذا الفن في بداياته التأسيسية داخل المشهد الأدبي المحلي. ومع أنه لم يكن الاسم الوحيد في تلك المرحلة، فقد ظهرت أسماء عديدة مثل عبدالله الجفري وأحمد السباعي وحمزة شحاتة ومحمد علوان نفسه، إلا أن الأخير تميّز بوعي سردي لافت، جعله أحد أهم من رسّخوا البنية الجمالية والمشهدية للقصة القصيرة السعودية، وقدّموها كفن أدبي مستقل، له أصوله ومقوماته الخاصة.
كتب علوان في فترة بدأت فيها الصحافة الثقافية تأخذ طريقها إلى التشكل، وكانت القصة القصيرة إحدى أبرز الفنون التي وجدت في الصحافة منبرًا للانتشار والتجريب. ومع أن هذه البدايات المبكرة لفن القصة القصيرة في السعودية شابها الكثير من الخطاب الأخلاقي والمباشرة والضعف الفني، بسبب نبرة الوعظ والإرشاد، إلا أن محمد علي علوان انطلق من فهم مختلف؛ لقد كان واعيًا منذ نصوصه الأولى بأن القصة ليست خطبة، ولا وسيلة لتلقين المواعظ الدينية، وإنما هي فنّ سرديّ يصنع لحظة إنسانية مركّبة، تُروى بدقة، وتُحكى بحب، وتستبطن العالم الداخلي للشخصيات.
هذا الوعي المبكر مكّن علوان من أن يُبدع عوالم قصصية نبضت بالحياة، وعكست مشاغل الإنسان السعودي البسيط، بعيدًا عن التنميط أو التجريد. وعندما توالت مجموعاته القصصية، ترسّخ صوته كقاصّ رصين، لم يتكئ على الزخرف اللفظي. القارئ لنصوصه سيجد انحيازًا إلى التكثيف والبناء الفني، واللغة المشحونة بالدلالة والصدق، وكذلك متعة تلقٍّ بديعة.
تجربة سردية أصيلة
علوان أحبّ مدينة أبها وسوقها الشعبي، وارتبط وجدانًا بقرى الجنوب كجغرافيا روحية. نقرأ قصصه كأنها أغانٍ شعبية
في سياق المشهد النقدي للقصة القصيرة السعودية يحضر محمد علي علوان بوصفه صوتًا بارزًا تمكّن من صوغ تجربة سردية اتسمت بالأصالة، والمزج بين البساطة والعمق، حيث نلمس استبطان الذات ومساءلة الواقع.
أغلب الدراسات التي تناولته، مثل دراسة ابن جليوي الرفاعي في بحثه “الخطاب القصصي في المملكة”، تصف قدرته على تحويل المشهد الريفي المحلي إلى مادة أدبية، وإبداعه في توظيف التقنيات السردية الواقعية بأسلوب ذكي بعيد عن المباشرة، كما في قصة “السؤال الثالث” التي تُقرأ بوصفها نقدًا ساخرًا لمؤسسات التعليم والتلقين القسري، وتحمل أبعادًا تتجاوز ظاهرها إلى أزمة مجتمعية أعمق.
في مقالة نُشرت في مجلة “المجلة” بعنوان “رحيل محمد علي علوان”، يلفت النقاد انتباهنا إلى أن الكاتب لم يصف نفسه بأنه راوٍ لهموم محلية فحسب، بل كان يشعر بأنه معنيٌّ بالإنسان ككائن هش، يحلم ويخاف ويصطدم بالجدار الأخلاقي والاجتماعي في محيطه، ويراوغ الرقيب. ومن اللافت أنه لم يغادر القصة إلى الرواية أو الأجناس الأخرى، بل بقي وفيًّا لشكل القصة القصيرة، مُراهنًا على كثافتها وقدرتها على الالتقاط الذكي للحظة.
غير أن جزءًا كبيرًا من هذه الكتابات النقدية حول قصصه بقي وصفيًّا، يكرّس الانطباع العام دون التوغّل في المعمار الفني للنص. وللأسف، غابت عن معظمها تحليلات سردية دقيقة تُعنى بالزمن، بالبنية الشعورية، أو بتفكيك الصراع الداخلي بين الشخصيات والخلفية الرمزية للمكان.
ولعلّ هذا ما يدعو إلى ضرورة استكمال المشروع النقدي حول علوان باستخدام مناهج أكثر عمقًا، تعيد قراءة نصوصه بعيدًا عن التوصيف الوثائقي الاجتماعي، وتُقدّمها بوصفها بناءات جمالية احتفت بالمكان واللغة والتراث والإنسان.
"ما الحب والمطر"
علوان لم يغادر القصة إلى الرواية أو الأجناس الأخرى، بل بقي وفيًّا لشكل القصة القصيرة، مُراهنًا على كثافتها
تُعدّ قصة “ما الحب والمطر” أحد أجمل النصوص تمثيلاً لعالم محمد علي علوان القصصي، حيث يشعر القارئ بتدفّقات حسّاسة تجاه الإنسان البسيط، وإيمان الكاتب بأن القصّة ليست الحكاية العاطفية أو الموقف العابر، بل فضاء إنساني متكامل، تتشابك فيه العاطفة مع الجغرافيا والزمن بكل سحره، مع الطفولة والحلم، والمقدّس مع الأرض والأنثى والمطر.
تحكي القصة عن فتى صغير في قرية جنوبية تهطل عليها الأمطار، فيعود من المدرسة مبللا ومفعما بالخيال، ثم يبدأ بانشغالٍ طفوليٍّ بريء بفتاة اسمها هدباء، تمثّل له النقاء والدهشة الأولى. يحاول أن يلفت انتباهها بوسائل بسيطة -بثوبٍ مغسول، بنظرة، بخطابٍ مراهقٍ مكتوب بحروف منقولة من علبة حليب- لكن تجربته تنتهي بالفشل حين تظن الفتاة أن الرسالة من شخص آخر. تنطفئ أحلامه الأولى أمام قسوة الواقع، لكنه يكتشف في لحظة الوعي الأولى أن الحب والمطر وجهان للبراءة المفقودة.
شخصية الراوي -الفتى- في هذه القصة لم تكن فقط البطل، بل هي أشبه بعين الجنوب وروحه. فمحمد علي علوان يجعل منه مرآة للطفولة الشعبية المقهورة بالحرمان والحلم معًا. المكان يمكن الشعور به ككائنٍ يشارك في تشكيل الشخصية؛ فهذه القرية الطينية تتفاعل مع المطر، تصبح طرقها موحلة، كما يرسم علوان تفاصيل مكانية كثيرة مثل المدرسة والتنور والبيوت، كلها تتحوّل إلى رموز للدفء والأمومة. هنا تظهر الحياة في مقابل القسوة والعقاب والفقر.
المنزل الطيني هو رحم الأرض، والمطر الذي يهدّده هو أيضًا رحم آخر يغسل الخوف ويوقظ الشهوات والحنين.
نقرأ إذن أنه من خلال هذا التشابك بين الإنسان والطبيعة تتحوّل هذه البيئة الجنوبية إلى مسرح رمزي يربط بين الأم والأرض والجسد الإنساني في ثالوثٍ مقدّسٍ احتفى به علوان في أغلب قصصه.
ويتجاوز الحب في القصة الرومانسية المفرطة، كونه حبًّا مراهقًا بسيطًا محاصرًا بالخوف والعادات. مشاعر الفتى تخرج بين الخجل والرغبة والرهبة من “الجنّ”، وهو عنصر أسطوري يمكن فهمه رمزًا للممنوع، وللرقابة الدينية والاجتماعية التي تراقب الجسد والخيال. إذن، الخوف من الجنّ هو الخوف من الذات، ومن العشق، ومن الحرية. وهنا يتجلّى “الجنّ” كرمزٍ للتابو الذي يمنع التعبير العاطفي ويحوّل الحب إلى خطيئة.
لكن علوان لم يكن يواجه التابو بالمباشرة أو الخطابة أو التذمّر، بل كان يتفنّن في ملاعبته بالتصوير الداخلي واللغة الحسيّة التي تجعل المطر رمزًا للغسل والتطهّر، والفتاة رمزًا للروح، والعقاب رمزًا لسلطة المجتمع على الجسد.
نقد عميق

مارس علوان في قصصه نقدًا ثقافيًا عميقًا من دون أن يرفع شعاراتٍ براقة أو يخوض في الوعظ. القصة تُدين النظام الاجتماعي الأبوي والسلطة الدينية من خلال التفاصيل الصغيرة: خوف الطفل من أمه، العقاب البدني، تحقير الأم للعلم، وقولها “الحرمة حرمة، تاليتها الرحى والبرمة.”
بهذا الحوار البسيط كشف الكاتب بنية الوعي التقليدي الذي يقمع المرأة ويحاصرها داخل المطبخ والبيت، بينما يفتح أمام الرجل طريق التعليم والعمل. النقد هنا ليس في الخطاب، بل في المفارقة: الأم التي تُربي ابنها على الفخر والكرامة تزرع في الوقت ذاته بذور القهر داخل ابنتها.
هذا النوع من النقد الهادئ غير المباشر هو ما ميّز علوان عن غيره من كتّاب جيله الذين كتب بعضهم بنَفَسٍ وعظي أو أيديولوجي مباشر.
لغة علوان في هذه القصة ذات بعدٍ تصويري سينمائي؛ استخدم الكاميرا بدل الراوي، التقط تفاصيل الوحل والمطر والوجوه والعيون، ومنحها بعدًا حسيًا داخليًا. المطر هنا أكبر من مجرد خلفية جوّية، بل هو كيان سردي يتحكّم في الإيقاع، مثل عدسة تُبدّل الضوء وتكشف عن الباطن.
السرد يتنقّل بين الواقعي والحلمي، بين المادي والرمزي، كأن الكاتب يصوّر عبر كاميرا داخلية تتحرّك داخل جسد الشخصية وروحها.
مشاهد الأم والمطبخ والتنور والطريق المسقوف المليء بالجنّ، كلها لقطات تتقاطع في بناء بصري متين يجعل القارئ يشاهد القصة أكثر مما يقرأها.
والأم عند علوان هي مركز الكون الأخلاقي والروحي، تمثّل الجذر الأول للحياة. أما المرأة عمومًا فهي الجمال المقموع الذي يسعى للتحرر من العنف والتسلّط، ومحكومة بثقافة الخضوع.
في هدباء، نلمح هذا الجمال البريء الذي يتحوّل في النهاية إلى حزنٍ طفولي، إذ تضحك الفتاة من سقوط البطل في الوحل دون أن تدري أنها تقتل حلمه الأول.
وهكذا يصبح الحب عند علوان خسارةً مشتهاة، استخدمها من أجل أن يُعيد صياغة الإنسان في مواجهة ذاته والعالم.
من خلال “ما الحب والمطر” رسم محمد علي علوان لوحةً حيةً لجنوب السعودية، ليس كمكان جغرافي جميل فحسب، بل كذاكرة جماعية مشحونة بالأساطير والحب والأمومة.
إنه الجنوب الذي يفيض بالمطر والخصب، لكنه أيضًا الجنوب الذي يُنتج الخوف والتسلّط.
ونلمس هنا نوعًا من التناقض، وهنا تظهر عبقرية علوان في تحويل اليوميّ إلى أسطورة تُحكى، والطفولة إلى مرآة للوجود.
قصة “ما الحب والمطر” أشبه بسيمفونية داخلية عن الإنسان والجنوب والأم والمرأة والروح -نشعر أننا مع نصّ صُوّر بأدق كاميرا لغوية التقطت لحظات العبور بين البراءة والمعرفة، بين الجسد والسماء، بين المطر والحب.
مرآة للذات والمكان
الأم عند علوان هي مركز الكون الأخلاقي والروحي، تمثّل الجذر الأول للحياة
تميّز الكاتب الراحل محمد علي علوان برؤية سردية مشهدية تجاوزت التوصيف السطحي للواقع، نحو فهمٍ عميق لفن القصة. وفي مقابلاته أكّد أن القاص لا يكتب عن المجتمع بشكل دعائي، بل ينطلق من الداخل، من صراع الإنسان مع نفسه ومع محيطه، مشيرًا إلى أن السرد ينبع من الحساسية الجمالية ولا يكترث للوعظ الاجتماعي. هذه الرؤية نجدها في شخصياته، التي كانت كائنات لحمية تائهة تبحث عن الدفء وسط القسوة.
وظّف الاختزال والمفارقة والانزياح الزمني ببراعة، كما استخدم تقنيات تيار الوعي والمنولوج الداخلي من دون أن يفقد النص قابليته للتلقي الشعبي. أسلوبه زاوج بين المشهدية والتأمل، وجعل من التفاصيل اليومية بوابة للدخول إلى أعماق الإنسان.
أحبّ علوان مدينة أبها وسوقها الشعبي، وارتبط وجدانًا بقرى الجنوب كجغرافيا روحية. نقرأ قصصه كأنها أغانٍ شعبية، تحمل في طيّاتها الحب والمطر والطفولة والجنّ، وتُقدّم الجنوب كبطل سردي. وكل هذا جعل تجربته مهمّة وقابلة للمعالجة الدرامية والسينمائية. نرى أن السينما السعودية تسعى للاستعانة بخبرات غربية في تطوير سيناريوهات وكتابات وأفكار، لكنها للأسف تتجاهل كنوزًا سعودية محليّة مثل علوان.
إعادة قراءة علوان اليوم بمثابة خطوة من أجل أن نستعيد صوتًا شعبيًا صادقًا، وكتابة أصيلة تُخاطب الناس بلغتهم، وتحمل في طيّاتها حلمًا مؤجلاً بسينما وأدب من قلب الأرض السعودية وليس من وهم الخارج.