محكمة دستورية أم لاعب سياسي: مخاوف من تآكل استقلالية القضاء في العراق

خلافات داخلية وضغوط سياسية كامنة تهز شرعية المحكمة.
الأربعاء 2025/07/09
ساحة لصراع الإرادات السياسية المقنّعة

في ظل تعقيدات المشهد السياسي العراقي، تبرز المحكمة الاتحادية العليا كمؤسسة دستورية تواجه أزمة وجود حقيقية، ليس فقط بسبب استقالات جماعية أربكت عملها، بل نتيجة تصاعد الشكوك حول استقلاليتها وتحوّلها إلى فاعل سياسي أكثر من كونها مرجعية قانونية.

بغداد - في ظل تصاعد التوترات الإقليمية في الشرق الأوسط، وجدت المحكمة الاتحادية العليا في العراق نفسها وسط عاصفة داخلية، سلطت الضوء مجددًا على التساؤلات القديمة حول مدى استقلاليتها ودورها الحقيقي في النظام السياسي العراقي: هل هي مرجعية دستورية عليا أم لاعب سياسي متأثر بالتجاذبات الحزبية؟

وفي خطوة مفاجئة، تقدّم ستة من أصل تسعة قضاة دائمين في المحكمة، إلى جانب ثلاثة قضاة احتياطيين، باستقالاتهم الشهر الماضي، مما أدى فعليًا إلى شلل تام في عمل المؤسسة الدستورية الأهم في البلاد.

ورغم الغموض الذي يكتنف أسباب الاستقالة الجماعية، إلا أن مصادر إعلامية رجّحت أن تكون ناتجة عن خلافات حادة مع رئيس المحكمة جاسم العميري، المعروف بقراراته المثيرة للجدل منذ توليه المنصب في 2021، فيما ألمحت تقارير أخرى إلى ضغوط سياسية تتعلق بملف حساس، وهو اتفاقية خور عبدالله مع الكويت.

وإن بدت هذه التقديرات واقعية بعد عودة القضاة المستقيلين إلى المحكمة، إثر إعلان العميري تقاعده لأسباب صحية، وتعيين القاضي منذر إبراهيم حسين خلفًا له، إلا أن هذه الخطوة، رغم كونها أعادت العمل للمحكمة، لم تُنهِ القلق الأوسع بشأن مصيرها كمؤسسة دستورية يفترض أن تكون بمنأى عن التأثيرات السياسية.

لأن قراراتها غير قابلة للاستئناف، فإن المخاوف من تغوّل المحكمة الدستورية دون رقابة خارجية تزداد
لأن قراراتها غير قابلة للاستئناف، فإن المخاوف من تغوّل المحكمة الدستورية دون رقابة خارجية تزداد

وعلى مدى السنوات الأخيرة، اتّسم أداء المحكمة باتخاذ قرارات مفصلية كان لها أثر بالغ على المشهد السياسي، من المصادقة على نتائج انتخابات 2021 المتنازع عليها، إلى إبطال ترشيحات رئاسية وفرض نصاب الثلثين في البرلمان، وصولًا إلى إعلان عدم دستورية قانون النفط والغاز في إقليم كردستان العراق. بل إن المحكمة تدخلت أيضًا في مسائل سياسية مباشرة، كعزل رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وقرارات متعلقة بتوزيع الموازنة، وصولًا إلى حكمها المثير للجدل بشأن إلغاء تصديق البرلمان على اتفاقية خور عبدالله مع الكويت، ما فجّر أزمة دبلوماسية.

وأثار مثل هذا الانخراط الكثيف في القضايا السياسية مخاوف جدية من تحوّل المحكمة إلى أداة بيد أطراف نافذة، بدلًا من أن تكون مرجعية مستقلة لتفسير الدستور.

ويعزز هذه المخاوف أن المحكمة تعمل وفق تعديل قانوني أجري في عام 2021 لتفعيلها، دون المرور بالآلية الدستورية التي تشترط إقرار قانون تأسيسها بأغلبية الثلثين، لضمان التوافق السياسي والاستقلال المؤسسي.

وهو ما يجعل من المحكمة الحالية كيانًا يستمد شرعيته من توافق سياسي هش لا من قاعدة دستورية راسخة.

وبينما يرى البعض في أحكام المحكمة تصحيحًا لمسار الفوضى السياسية، ينظر آخرون إليها كمصدر إضافي للانقسام، بسبب غموض حدود اختصاصها وتوسعها في تناول قضايا تتسم بطابع سياسي بحت. ولأن قراراتها غير قابلة للاستئناف، فإن المخاوف من تغوّلها دون رقابة خارجية تزداد.

ويرى صفوان الأمين مستشار السياسات العامة في تقرير نشره المجلس الأطلسي أن الحاجة إلى إصلاح بنيوي للمحكمة بات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

ويضيف الأمين أن العراق، وهو يواجه تحديات تتعلق بالثروات الطبيعية، الفيدرالية، الحقوق المدنية، والعلاقات الدولية، يحتاج إلى محكمة دستورية تتمتع بالشرعية، والاستقلال، والوضوح في الاختصاص، بدلًا من أن تبقى ساحة لصراع الإرادات السياسية المقنّعة.

وتُظهر الأزمة الحالية أن مصير المحكمة ليس فقط قضية قضائية، بل مرآة لأزمة أعمق تتعلق بمكانة القانون والمؤسسات في العراق، في وقت أصبح فيه التوازن بين السلطات أمرًا بالغ الهشاشة.

الأزمة الحالية تُظهر أن مصير المحكمة ليس فقط قضية قضائية، بل مرآة لأزمة أعمق تتعلق بمكانة القانون والمؤسسات في العراق

وتُعد المحكمة الاتحادية العليا في العراق من أهم المؤسسات الدستورية التي تشكل الضامن الأساسي لتطبيق القانون وحماية النظام السياسي من الانزلاق نحو الفوضى.

ومنذ إعادة تشكيلها عام 2021، تحولت المحكمة إلى لاعب رئيسي في المشهد السياسي، إذ أخذت تصدر قرارات حاسمة أثرت على نتائج الانتخابات، واختيار الرؤساء، وحتى القوانين الإقليمية، ما جعلها هدفًا للنقد من أطراف متعددة، سواء من داخل البرلمان أو من الحكومة التنفيذية.

وقد أثارت هذه التدخلات القضائية جدلاً واسعًا حول حدود اختصاصات المحكمة، ومدى التزامها الحياد، خاصة في ظل غياب آليات رقابة خارجية على اختصاصاتها التي تمارسها دون إمكانية الطعن.

وتاريخيًا، تم إنشاء المحكمة وفقاً لمتطلبات دستورية صارمة تهدف لضمان استقلاليتها، حيث نص الدستور العراقي على ضرورة تمرير قانون إنشائها بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان، لضمان شرعيتها وحمايتها من التأثيرات السياسية.

ومع ذلك، لم يُنفذ هذا الإجراء الدستوري بالشكل المطلوب، إذ تم تعديل القانون الأساسي للمحكمة عام 2021 عبر توافق سياسي واسع لكنه تجاوز الإطار الدستوري، مما أضعف من مكانة المحكمة وفتح الباب أمام تساؤلات بشأن مدى قانونية تشكيلها.

وفي ظل هذه الخلفية، تزداد المخاوف من أن تكون استقالات قضاة المحكمة الكبرى، التي هزت المؤسسة وعطلت عملها، تعبيرًا عن تصاعد الخلافات الداخلية، وضغوط سياسية تهدف إلى التأثير على قرارات المحكمة أو إعادة تشكيلها بما يتماشى مع أجندات معينة.

يجب على قضاة المحكمة أن يكونوا قادرين على توضيح منهجهم التفسيري وتطبيقه باستمرار

وبينما يُنظر إلى استقالة القضاة على أنها احتجاج على قيادة رئيس المحكمة السابقة، تبرز تساؤلات أعمق حول استقلالية القضاء ومقاومته للتدخلات السياسية.

ويبقى دور المحكمة في العراق محوريًا خاصة في ظل غياب مؤسسات رقابية قوية وقوانين واضحة للحد من النفوذ السياسي على السلطات القضائية. كما أن النظام السياسي العراقي، الذي يعتمد بشكل كبير على التحالفات البرلمانية الواسعة والمتقلبة، يفتقر إلى توازن واضح بين السلطات، ما يجعل المحكمة الاتحادية ملاذًا أخيرًا لحماية الدستور، لكن هذا الدور يتطلب أن تكون المحكمة مستقلة وموثوقة، وهو ما يتعرض اليوم لخطر جدي.

ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لإعادة النظر في بنية المحكمة واستقلاليتها من خلال عملية شاملة تضم مختلف الأطراف السياسية والقانونية والمجتمعية، لضمان تأسيس مؤسسة قضائية لا تخضع للضغوط السياسية، وتتمتع بالشرعية الدستورية والمهنية اللازمة لتحمل أعباء الحكم الدستوري في العراق.

لكن مهمة إنشاء محكمة عليا مستقلة تبقى شاقة، إذ تتطلب توافقًا سياسيًا وثقة في مؤسسة ستكون مخوّلة بوضع الإطار الدستوري للدولة – وهو أمر فشلت النخب السياسية في تحقيقه حتى في قضايا أقل حساسية.

وفي الأثناء، ومع استمرار المحكمة بهيئتها الحالية، ينبغي أن تُمنح مساحة كافية لاتخاذ قراراتها دون تدخل، كما يتعيّن عليها أن تُظهر قدرًا من الحذر في الخوض في القضايا السياسية.

ويتجاوز تفسير النصوص الدستورية الفهم القانوني التقليدي إذ أنه مهمة معقدة ومتعددة التخصصات.

ويجب على قضاة المحكمة أن يكونوا قادرين على توضيح منهجهم التفسيري وتطبيقه باستمرار. وهذا أمر بالغ الأهمية في وقت تواجه فيه البلاد أسئلة جوهرية حول تقاسم الإيرادات، والموارد الطبيعية، واللامركزية، والفيدرالية، والحقوق المدنية، والمعاهدات الدولية.

ويبدو العراق بحاجة إلى محكمة تتمتع بالكفاءة والسلطة لتفسير هذه القضايا ضمن إطار من الشرعية الدستورية والثقة المؤسسية.

6