"مجاز لوني" يعاين تجربة التشكيلي سعيد حدادين

أعمال المعرض تتميز بتنوع الأساليب الفنية وبالطبقات اللونية التجريدية المحمّلة بطيف واسع من المشاعر الإنسانية.
الخميس 2025/08/07
احتفاء بالمشاعر

عمان- عبر الفنان الأردني سعيد حدادين خلال رحلته الفنية الطويلة عن المشاعر الإنسانية في كافة مستوياتها، فهو يستدعي من ذاكرته وجوها وملامح أردنية، ليبعثها من جديد بكل تفاصيلها الواقعية على سطح اللوحة، منوعا في الأساليب والمدارس التشكيلية، وفاسحا المجال للمرأة أيضا لتحضر في أعماله بأشكال متنوعة.

ويمثل معرض “مجاز لوني” محطة للتأمل في مسيرة التشكيلي الأردني الرائد، ومعاينة تجربته ومراحل تطورها عبر نصف قرن من الاشتغال الفني الممتد.

وتتميز أعمال المعرض الذي يحتضنه غاليري “فن وشاي” في عمّان بتنوع الأساليب الفنية وبالطبقات اللونية التجريدية المحمّلة بطيف واسع من المشاعر الإنسانية، كما يبرز حضور المرأة كرمز للجمال والحرية والخصب، إذ يميل حدادين المولود في عام 1945، إلى استلهام ملامح المرأة ليعبّر عن تلك الأفكار، وعندها تتناغم تلك الملامح مع الشجر والأرض والسماء والنبات وكل مكون في الحياة.

أما رسوماته للوجه، فتنسكب من ذاكرة الفنان ليس كما هي عليه في الواقع، بل بأسلوب تعبيري رمزي يميل للتجريد وينحو باتجاه الاختزال والتشويه والسرد البصري الغني بالألوان الحارة والقوية. حيث يؤكد الفنان “هنا لا تُعلَّق اللوحات، بل تُفتَح نوافذ على الداخل.. اللون مجاز، والخطّ انفعال متجسّد. كل عمل دعوة.”

ويعتمد الرسام في المعرض الذي يستمر حتى نهاية أغسطس الجاري، على تبسيط الأشكال وتكثيفها، مع مراعاة التركيب والتكوين الدرامي للشكل، حيث تصبح الخطوط أشبه بكتابة تجسد العقل والعاطفة، والصمت الداخلي للمشاهد هو النتيجة المنشودة من وراء اللوحة.

وفي ما يتعلق بالألوان، يميل حدادين في لوحاته للأزرق وبشكل خاص في الأعمال التي تعبر عن المرأة، حيث يشير إلى الهدوء والتأمل والعمق العاطفي والسكينة الوجدانية، وأحيانًا إلى الحزن أو الذكرى المؤلمة أو الانكسار، وربما تتداخل درجات الأزرق البارد مع الألوان الدافئة مثل الأحمر والبُنّي الترابي والأخضر، ما يمنح اللوحة توازنًا بصريًّا ولونيًّا يقدم الحالة النفسية للشكل ويعكسها بشكل مباشر على المتلقي.

وفي عدد من اللوحات يلحظ المشاهد اعتمادًا على لون واحد أو طيف محدود من الألوان لتحقيق التركيز الانفعالي للوجه، خاصة في اللوحات ذات الخطوط الكاريكاتورية، إذ تبدو هذه اللوحات كما لو أنها أُنجزت بضربة فرشاة واحدة في التلوين، وبأصابع خبيرة ومدرَّبة مارست هذا الفن عبر سنوات طوال.

وُلِد سعيد حدادين في بلدة ماعين بالأردن عام 1945، وكان أول أردني يحصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من كلية لفوف بالاتحاد السوفياتي عام 1974.

فور عودته إلى الأردن، درّس الرسم والتشريح في معهد الموسيقى والفنون الجميلة (1974 – 1979)، ثم ضمن كليات المجتمع والجامعة الأردنية ومراكز تدريب الفنون، كما عمل رسام كاريكاتير بصحيفة “الشعب اليومية” ومجلة “الوجدان العربي”.

تميّز حدادين بأسلوب تعبيري تجريدي يُركز على الوجوه البشرية، خاصة بورتريهات المرأة، التي رسمها بعيون غير متطابقة وأحياناً بعين واحدة، لتعبّر عن التأمل الداخلي أو عمق مآزق الإنسان العربي. نسج في لوحاته لغة فنية تجمع بين البساطة والتكثيف التعبيري باستخدام خطوط وألوان جريئة لوصف المعاناة الإنسانية دون التضحية بالقيمة الجمالية.

تمتد مسيرة حدادين الإبداعية لأكثر من خمسين عاما، وشارك في حوالي 16 معرضا شخصيا وحوالي 20 معرضا جماعيا محليا وعربيا وعالميا، وتُقتنى أعماله في متاحف عدة. وهو يُعرف بـ”ملك السكتش” لما يتمتع به من حضور قوي وخبرة طويلة. يعتبر من أهم رواد التشكيل الأردني المعاصر، حيث دمج الحس الثقافي والسياسي والاجتماعي في فنه، مؤمناً بأن الفن رسالة وانحياز إنساني لا مساحة فيها للمجاملات.

كما يصفه بعض النقاد بـ”شاعر اللون”، لأن لوحاته تعكس حالة وجدانية عميقة من خلال ألوانه الصارخة وخطوطه الجريئة. كما أثار اهتمام النقاد بأسلوبه في رسم الوجوه المشوّهة أو المكسورة – وخاصة وجوه النساء – حيث تكون العيون غير متطابقة أو تفتقد الاتزان، كرمز للانكسار الداخلي والمعاناة الإنسانية. في تصريح له خلال افتتاح “مجاز لوني” قال الفنان حدادين إن “العمل الفني الحقيقي لا يُقاس فقط بمهارة تنفيذه، بل بما يتركه من أثر في الروح. اللوحة التي لا توقظ فيك سؤالًا أو تستفز إحساسا، تظل في طور التكوين. بالنسبة إليّ، الفن ليس ترفا بصريا، بل هو بوح عميق، ونافذة ضرورية على الذات.”

ويقول الفنان إن رحلته الفنية منذ البداية كانت سلسلة من التحديات، حيث ذهب للاتحاد السوفياتي ودرس الرسم والتشكيل وعاد ليثبت لمجتمعه أن الفن ضرورة وجودية، متأسفا لعدم وجود مناهج حقيقية في الفن والفلسفة بمدارسنا.

ويرى حدادين أن الرسم منحه الفرصة للانفتاح على فنون أخرى، فكتب الشعر والقصة والرواية، وأحب أكثر الغناء والموسيقى، معتبرا الرسم لغة عالمية متغيرة ومتحولة ومتجددة باستمرار، وأنه قادر على تغيير مسار التاريخ؛ لأنه يدافع دوماً عن إنسانيتنا وله أثر عميق في دواخلنا.

ويقول الفنان الدكتور خالد خريس عن تجربة حدادين “من وجهة نظري يعتبر سعيد حدادين واحداً من أهم الفنانين الأردنيين التعبيريين، حيث يمثل جيل ما بعد الريادة. ولطالما احتل الإنسان في أعماله الأهمية القصوى، وهو من خلال حرفيته وتمكنه من الرسم واللون، استطاع أن يدهشنا بأعماله التي تتناول على الدوام الإنسان بمعاناته وتأملاته ووجوديته، فاللوحة عنده تحمل طاقة تعبيرية هائلة، تجذب المشاهد لها على الفور، وتحرك فيه مشاعر وأحاسيس إنسانية، وبالذات في أعمال البورتريه.. اللوحة لدى سعيد ليست ترفا ولا بذخا، بل هي انحياز تام للإنسان وللإنسانية.”

 

14