ماتيرا.. درس أخلاقي وحضاري عمره تسعة آلاف عام

مدينة الحجارة والذاكرة.. من خزي الفقر إلى مجد الثقافة.
السبت 2025/09/20
مشهد يكاد يلامس الأسطورة

هناك مدن لا تخجل من ماضيها بل تحوله إلى طاقة خلاقة ونقطة قوة مهما كان هذا الماضي صعبا أو وصمة من أي نوع، من هذه المدن ماتيرا الإيطالية التي نجحت في تحويل وصمة الفقر إلى سطر من تاريخها العريق، وحولت القسوة إلى جماليات تعبق بحكايات لا تزال تحتفظ بها حجارتها.

على تخوم الجنوب الإيطالي، في إقليم بازيليكاتا الوعر، تنبسط مدينة صغيرة لكنها مثقلة بالذاكرة، عتيقة في الجذور، عَصيّة على النسيان: ماتيرا. إنّها ليست مجرد مدينة تنتمي إلى الخرائط، بل كيان حيّ يتقاطع فيه الزمن مع الحجر، وتتعانق فيه طبقات التاريخ مع تفاصيل الحاضر.

 مدينة الحجارة والكهوف، التي حملت في جدرانها قصص البؤس كما احتضنت وعود المجد. هي نصّ مفتوح على التاريخ الإنساني برمّته، من العصر الحجري القديم وحتى حاضر السياحة العالمية. تبدو وكأنها تقيم عند مفترق الأزمنة: نصفها غائر في الصخور حيث سكن الأجداد، ونصفها الآخر يتطلّع بشغف وتحدٍّ نحو المستقبل.

يقع الإقليم الذي يحتضنها، بازيليكاتا، أو كما كان يُعرف قديماً بـ”لوكانيا”، بين كمبانيا غرباً، بوليا شرقاً، وكالابريا جنوباً. إقليم صغير المساحة، لا يكبر لبنان إلا قليلا، لكنه شديد الكثافة جغرافيا وحضاريا، إذ شكّل عبر القرون ممرا ومعبرا لحضارات متعاقبة. يطل على البحرين: التيراني غرباً، والأيوني شرقاً، ويشبه على الخارطة مشط القدم الإيطالية، حيث تمثل كالابريا الأصابع، وبوليا الكعب، فيما تحتل بازيليكاتا الوسط، كحلقة وصل بين البر والبحر، بين الماضي والآتي. وفي قلب هذا الامتداد الحجري، تنهض ماتيرا على صدع “غرافينا”، حيث المياه الجوفية حفرت مساراتها في الصخر، وحيث الزمن ترك بصماته على جدران الكهوف كأنها نقوش على ذاكرة لا تمحى.

صخور تروي الحكايات

المدينة التي عاشت عزلة طويلة تعلمك أن الأصالة لا تستعجل، وأن الحجارة تفرض إيقاعها على الزائر

وجه الخصوصية الأعمق في ماتيرا يتجسّد في حيّ “ساسي دي ماتيرا”، أي “أحجار ماتيرا”. هناك يمتدّ مشهد يكاد يُلامس الأسطورة: شبكة متشابكة من الكهوف والممرات والمساكن المنحوتة في الحجر الجيري، تضرب جذورها في أعماق ما يزيد عن تسعة آلاف سنة. يقول الباحثون إن الإنسان عاش هنا بلا انقطاع منذ العصر الحجري القديم، ما يجعلها ثالث أقدم مدينة مأهولة في العالم بعد أريحا وحلب. في تلك الصخور التي تحوّلت إلى بيوت، وفي الكنائس المطويّة في أحشاء الجبال، وفي الجداريات التي صمدت رغم رياح القرون، تتجلّى طبقات من المعنى الروحي والإنساني، كأنّ المكان مرآة لرحلة الإنسان بين الفناء والخلود.

حين يدخل الزائر حيّ “ساسي”، يشعر أنه يعبر طبقات من الزمن المتراكم: من الكهوف البيزنطية حيث اختبأ الرهبان وأقاموا صلواتهم، إلى الأديرة المتقشّفة التي حملت بذور الروحانية الأولى، وصولاً إلى المساكن البدائية التي عاش فيها الفقراء مع مواشيهم حتى منتصف القرن العشرين. كل حجر هنا شاهد، وكل منعطف صفحة من كتاب مفتوح على الذاكرة الإنسانية. ليس غريباً أن يشعر المرء أنّ المكان يعيد صياغة علاقته بنفسه: فهو يضعه وجهاً لوجه أمام هشاشة الجسد وصلابة الروح، أمام فقر الإنسان وغنى المعنى.

لكنّ صورة ماتيرا في القرن العشرين لم تكن رومانسية كما تبدو اليوم. فقد ارتبط اسمها بالفقر المدقع، حتى وُصفت بـ”عار إيطاليا”. الكاتب الإيطالي كارلو ليفي، الذي نُفي إليها في ثلاثينات القرن الماضي، كتب عنها بمرارة، وفضح الظروف القاسية التي عاشها أهلها.

كل حجر شاهد وكل منعطف صفحة من الذاكرة
كل حجر شاهد وكل منعطف صفحة من الذاكرة

وفي الخمسينات كان آلاف السكان لا يزالون يقيمون في الكهوف من دون كهرباء أو مياه جارية أو صرف صحي، يتقاسمون مع الحيوانات الغرف ذاتها. لم يكن الفقر هنا مجرد عوز مادي، بل حالة وجودية كاملة، حيث الإنسان يُسحق في حجرته الضيقة كما يُسحق في شعوره بالعزلة والهامشية. حتى رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ألتشيده دي غاسبيري لم يجد وصفا أدقّ من اعتبارها “خجلا وطنيا”.

غير أنّ هذا الخزي لم يستمرّ إلى الأبد. فالمدينة التي بدت وكأنها محكومة بالاندثار، انبعثت من جديد كطائر الفينيق. بدأت الدولة الإيطالية في ستينات القرن العشرين مشاريع إعادة إسكان ونقل للسكان، ثم تتابعت مبادرات الترميم والتنمية. شيئا فشيئا، تحوّل حيّ “ساسي” من رمز للبؤس إلى مسرح للجمال.

 استعاد الحجر معناه، وتحوّلت الكهوف إلى فنادق ومطاعم ومراكز ثقافية. في التسعينات، أدرجت اليونسكو “ساسي دي ماتيرا” على قائمة التراث العالمي، واعتبرت التجربة نموذجا للقدرة الإنسانية على تحويل القبح إلى جمال، والخذلان إلى رجاء. وفي عام 2019، اختيرت ماتيرا عاصمة للثقافة الأوروبية، لتغدو أيقونة لمصالحة الإنسان مع ماضيه، ودرسا اجتماعيا في كيفية تحويل الجرح إلى ذاكرة، والعار إلى مجد.

إنّ سيرة ماتيرا ليست مجرّد قصة مدينة، بل استعارة عميقة للوجود البشري نفسه. فالإنسان، مثلها، يجرّ خلفه أثقال الماضي ويكابد قسوة الحاضر، لكنه قادر على تحويل الهشاشة إلى قوة، والانكسار إلى معنى. في أزقتها الضيّقة يتأمّل المرء صور الفقر التي لم تندثر، وفي بيوتها المنحوتة يستشعر صدى الأرواح التي مرّت من هنا، وفي ساحاتها المفتوحة يرى وجوه السياح الذين يلتقطون الصور ويصنعون سرديات جديدة. بين العار والمجد مسافة قصيرة، لكنها محفوفة بالعناء والإصرار.

مدينة الحجارة والذاكرة مرآة صادقة للإنسانية
مدينة الحجارة والذاكرة مرآة صادقة للإنسانية

هكذا تبقى ماتيرا، مدينة الحجارة والذاكرة، مرآةً صادقة للإنسانية: تفضح ضعفها وتعلن صلابتها، تذكّرها بخزيها وتحتفل بانتصارها. إنها شاهد على أنّ التاريخ لا يُمحى، بل يُعاد تأويله. ومن رحم الفقر والخذلان يمكن أن يولد المجد، كما يولد النور من قلب الظلمة، وكما تنبثق الحياة من صمت الحجر.

في عام 1952، حين قررت الدولة الإيطالية التدخل لإخلاء السكان من كهوف ماتيرا قسراً وإعادة توطينهم في أحياء حديثة، بدت المدينة وكأنها أُخرجت من التاريخ دفعة واحدة. صارت مدينة منسية، تتأرجح على حافة العزلة، مطويةً في صفحات الماضي مثل جرح لم يلتفت إليه أحد. لكن، كما يحدث مع المدن التي ترفض الموت، انبثق التحوّل من بين صخورها. ففي ثمانينات القرن العشرين بدأت مشاريع الترميم، ثم جاء اعتراف اليونسكو عام 1993 بالمدينة إرثا إنسانيا عالميا، ليتوج هذا المسار عام 2019 حين اختارها البرلمان الأوروبي عاصمة للثقافة الأوروبية. كانت تلك اللحظة أشبه بولادة ثانية: من الخزي إلى المجد، ومن العار إلى الفخر، تحوّلت الحكاية إلى ملحمة خلاص.

ما يثير الدهشة أن عمارة ماتيرا ليست مجرد حجارة صامتة أو مبانٍ متحجّرة في ذاكرة الماضي، بل هي درس بليغ في قدرة الإنسان على التكيّف مع بيئته. لقد استغلّ السكان طبيعة الصخور لتأمين درجة حرارة ثابتة في الكهوف، وجعلوا من المنحدرات وسيلة للتحكم في المياه وجمعها. لم تكن العمارة زينة أو ترفا جماليا، بل وسيلة بقاء، تجسيدا لعبقرية الإنسان البسيط حين يواجه الطبيعة القاسية بسلاح الابتكار. هنا، يتحوّل الحجر إلى حليف، والجغرافيا إلى شريك، والمدينة كلها إلى معمار ناطق بذكاء الفطرة.

أما كنائسها الكهفية، المزدانة بلوحات جدارية بيزنطية، فهي أكثر من أماكن عبادة. إنها شهادة على روحانية عميقة، وعلى تداخل الشرق بالغرب، حيث تمتزج المسيحية اللاتينية بظلال الفن البيزنطي، وتتقاطع التقاليد الإيطالية مع رموز صوفية تتجاوز المكان والزمان. في تلك الجداريات ترى وجها آخر لماتيرا: وجها يتجاوز البؤس المادي نحو ثراء روحي لا ينضب. لقد كانت الكهوف ملجأ أجساد أنهكها الفقر، لكنها في الوقت نفسه معراج أرواح كانت تبحث عن معنى أوسع للحياة.

ولعلّ هذا البعد الروحي الجليل هو ما جعل السينما العالمية تنجذب إلى شوارع ماتيرا وكهوفها. المخرج باولو باسوليني اختارها مسرحا لفيلمه “الإنجيل بحسب متى”، ثم جاء ميل غيبسون ليحوّلها إلى أورشليم في فيلمه “آلام المسيح”، قبل أن تلمع شوارعها الحجرية في فيلم “لا وقت للموت” من سلسلة جيمس بوند. لم تكن الكاميرات تبحث عن ديكور فحسب، بل عن ذاكرة متجسّدة في المكان، عن لغة صامتة تنطق بها الجغرافيا حين تتحول إلى فضاء سينمائي. هنا لا تكون السينما مجرد تصوير، بل استعادة لذاكرة دينية وإنسانية ممتدة، تتجاوز السرد الفني لتصبح طقسا جماليا وروحيا معا.

وفي قلب المدينة تعلو قلعة ماتيرا، التي احتضنت أكبر عرض حي لتجسيد بيت لحم وميلاد المسيح، على امتداد كيلومتر كامل، شارك فيه مئات الممثلين من مختلف أنحاء إيطاليا. في تلك الليلة بدت المدينة خشبة مقدسة، حيث تمازجت الأسطورة بالدين، والفن بالتاريخ، وأصبح الحجر نفسه ممثلاً في مسرح كوني. ليس غريباً أن تتحول ماتيرا إلى رمز لروحانية جنوب إيطاليا، حيث تتحوّل الصخور إلى نصوص مقدسة، وحيث تُستعاد الحكايات الكبرى في أزقة ضيقة تشهد على سيرة الإنسان.

مدينة خارج الزمن

هنا يتحول الحجر إلى حليف، والجغرافيا إلى شريك
هنا يتحول الحجر إلى حليف، والجغرافيا إلى شريك

إذا ما سرت في “ساسي”، فإنك سرعان ما تدرك أن ماتيرا ليست مدينة تُستهلك سريعاً في جولة سياحية عابرة. إنها مدينة تدعوك إلى البطء، إلى التأمل. هنا يمكن أن تجلس في مقهى منحوت بالصخر، أو تبيت في فندق كهفي يعيد إنتاج تجربة السكن القديمة بروح جديدة. هذا البطء ليس مجرد ترفٍ سياحي، بل هو فلسفة حياة. فالمدينة التي عاشت عزلة طويلة تعلمك أن الأصالة لا تُستعجل، وأن الحجارة تفرض إيقاعها على الزائر: إيقاع الوادي والمنحدر، إيقاع الصمت والانتظار.

وحين جاءت لحظة 2019، لم تكن الاحتفالات مجرد عروض صاخبة، بل مشروعا حضاريا يدمج السكان في قلب التجربة. انطلقت ورش العمل والمعارض، تعالت أنغام الموسيقى، وتنافست وصفات المطبخ المحلي مع أصوات الشعراء والقرّاء، حتى إنّ القائمين على الفعاليات ابتكروا “جواز سفر ثقافيا” بسعر رمزي يمنح حامله حق المشاركة في جميع الأنشطة، سواء كان زائراً أم من السكان. الفكرة لم تكن أن تتحوّل المدينة إلى مسرح للسياح وحدهم، بل أن يبقى أهلها جزءاً من الحكاية، شركاء في صناعة المعنى لا مجرد شهود صامتين.

بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى ماتيرا كموقع أثري أو وجهة سياحية وحسب، بل كدرس اجتماعي عميق: كيف يتحول الماضي إلى طاقة إبداعية، وكيف يصبح العار مادة للفخر، وكيف ينقلب الجرح إلى مصدر حياة جديدة. فالتجديد هنا لم يقم على الإقصاء، بل على الإدماج؛ لم ينفِ الذاكرة، بل استحضرها ليمنحها وجها جديدا.

المكان يعيد صياغة علاقتك بنفسك: يضعك أمام هشاشة الجسد وصلابة الروح، أمام فقر الإنسان وغنى المعنى

ماتيرا اليوم ليست فقط مدينة الحجارة، بل مدينة الإنسان في أوج ضعفه وقوة خياله. إنها المرآة التي تُريك أن الفقر قد يكون بداية مجد، وأن الحجارة، مهما بدت صمّاء، تحمل في صمتها وعدا بالخلود.

من المفارقات التي لا يملّ التاريخ من نسجها أنّ المدينة التي أُجبر أهلها يوماً على ترك كهوفها بسبب الفقر المدقع، عادت لتستقبل الغرباء من كل أصقاع العالم كي يبيتوا في تلك الكهوف نفسها، ولكن هذه المرّة بوصفها فنادق فاخرة وتجارب معيشية نادرة. ما كان بالأمس وصمة عار غدا علامة فخر، وما كان مأوى بائساً صار مقصد سياحة راقية. هكذا يتلاعب الزمن بالمصائر، ويحوّل الخزي إلى ثروة، ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان وذاكرته.

لكن، خلف هذه الطبقات من التجميل والاستثمار، يظل سؤال ملحّ يطرق الأذهان: هل ستتمكن ماتيرا من الحفاظ على روحها الأصيلة أمام ضغط السياحة العالمية أم أنّ الحجارة ستتحوّل إلى مجرد ديكور تجاري، فاقد لعمق التجربة الإنسانية التي وُلدت من رحمها؟ المدينة لا تزال تقاوم هذا التحدي، محاولةً أن توازن بين الأصالة والتجديد، بين كونها مكانا للذاكرة ومسرحا للمستقبل.

اليوم يعيش في ماتيرا نحو ستين ألف نسمة. كثيرون منهم يملكون متاجر منحوتة في الصخر، يبيعون فيها منتجات محلية أو قطعاً فنية يدوية. المشهد هنا ليس مجرّد تجارة، بل امتداد لهوية المدينة نفسها: تداخل بين بساطة الفلاحين وعراقة الحرفيين وروح الانفتاح على الزوار. في المتاجر ترى صور ميلاد المسيح معلّقة بجوار منتجات القماش والفخار، وتجد الرموز الدينية تقف جنباً إلى جنب مع أدوات الحياة اليومية. كأنّ المكان يذكّرنا بأن الروحانية لا تنفصل عن العمل، وأن التجارة قد تكون امتداداً للإيمان، وأن الحجارة قادرة على الجمع بين المقدس واليومي في مشهد واحد.

في يناير من عام 2019، غطّى الثلج الأبيض أسطح ماتيرا. بدا المشهد وكأن المدينة الكهفية استعادت براءتها الأولى، كطفلة خرجت من رحم الزمن متوّجة بغطاء أبيض. الثلج جعل الحجارة تبدو أكثر شفافية، كأنها تُشرق من الداخل. ربما هنا تكمن جمالية ماتيرا العميقة: قدرتها على التحوّل مع الفصول، من حرارة الجنوب الملتهبة إلى برد الشتاء الصامت، ومن قسوة الفقر إلى دفء الثقافة. فهي ليست مدينة جامدة، بل كائن حيّ يتنفس مع تغير الفصول ويبدّل ملامحه، محتفظا في جوهره بسرّ البقاء.

عاصمة الثقافة الأوروبية

مدينة الحجارة والكهوف
مدينة الحجارة والكهوف

اختيار البرلمان الأوروبي لماتيرا “عاصمة للثقافة الأوروبية” لم يكن مجرد تكريم محلي أو لفتة رمزية، بل كان إعلانا بأن هذه المدينة تمثل ذاكرة أوروبا كلها. إنها نقطة التقاء الحضارات، مرآة عاكسة لتاريخ الشرق والغرب معا. ولذلك كان شعارها في تلك السنة “مستقبل مفتوح”، شعارا يعبّر عن إرادة الانفتاح على التعددية الثقافية، وعن رغبة المكان في أن يكون جسرا لا جدارا. كأنّ ماتيرا تقول للعالم “لقد عشت آلاف السنين في عزلة وصمت، والآن آن الأوان أن أشارك في الحوار الأوروبي والعالمي، لا كضحية للتاريخ بل كشاهدة على قدرته على التجدد”.

ماتيرا ليست مجرد مدينة سياحية أو موقع أثري، بل هي درس أخلاقي وحضاري في معنى الصمود الإنساني. مدينة علّمتنا أن الفقر ليس بالضرورة لعنة دائمة، بل يمكن أن يتحوّل إلى إرث إنساني. أن الحجارة ليست دوما صمّاء، بل قادرة على أن تنطق حين نحسن الإصغاء إليها. وأن الكهوف لا تُختزل في كونها مقابر للماضي، بل قد تغدو بذورا للمستقبل، ومختبرا لأحلام جديدة.

حين يسير المرء بين أزقتها الحجرية الضيقة، يشعر أن الزمن في ماتيرا ليس خطا مستقيما، بل دائرة تتكرر. هنا عاش الإنسان البدائي ببدائيته، وهنا يعيش الإنسان المعاصر بكل رفاهيته. وبين الاثنين تمتدّ سلسلة طويلة من التحديات والانتصارات، من الانكسارات والنهوض. الحجارة تحفظ الذاكرة، لكنها لا تحبسها، بل تتيح لها أن تتحرك وتتجدد وتُعاد قراءتها في كل عصر.

بهذا المعنى، لا تعود ماتيرا مجرد حكاية عن الفقر والتحوّل العمراني، بل تصبح خطابا مفتوحا عن الإنسان في جوهره: كائن يخطئ ويصيب، يسقط وينهض، يخجل من ماضيه ثم يحوّله إلى وسام على صدره. هي المدينة التي تقول لنا بلسان حالها “لا تخجلوا من الماضي، فحتى العار يمكن أن يتحول إلى مجد، وحتى الكهوف التي ظننتموها سجنا قد تتحول يوما إلى قصور للذاكرة والثقافة”.

8