كيف يمكن إنهاء الحرب في غزة نهائيًّا
غزة تشهد تحولًا مفصليًا مع بدء تنفيذ خطة السلام التي أنهت جولات دامية من الحرب بين إسرائيل وحماس، وسط ضغوط أميركية وعربية مكثفة دفعت الطرفين إلى القبول بوقف إطلاق النار. ومع دخول الهدنة حيز التنفيذ، تتجه الأنظار إلى المرحلة التالية من الخطة التي ستحدد ما إذا كان هذا الهدوء سيفتح الباب أمام تسوية دائمة أم مجرد استراحة مؤقتة في صراع طويل.
واشنطن- مع بدء تنفيذ خطة السلام، دخل وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس حيز التنفيذ فعليًا، حيث خمدت أصوات السلاح وانسحبت القوات الإسرائيلية من مواقعها إلى خطوط متفق عليها داخل قطاع غزة. وفي المقابل، أفرجت حماس عن جميع الرهائن الأحياء مقابل إطلاق سراح 250 أسيرًا فلسطينيًا محكومين بالمؤبد، إضافة إلى 1750 معتقلًا من غزة احتجزتهم إسرائيل خلال العامين الماضيين.
وفي الأثناء، تدفقت المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وبدأ الفلسطينيون العمل على إعادة تأهيل غزة، ورفع الأنقاض، واستئناف مظاهر الحياة التجارية تدريجيًا. لكن خطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتكوّن من مرحلتين، وهذه الإجراءات ليست سوى المرحلة الأولى منها.
ورغم صعوبة تنفيذها بعد طول المفاوضات، إلا أنها تبقى أسهل من المرحلة الثانية، التي تشمل نزع سلاح حماس، وانسحابًا إسرائيليًا إضافيًا إلى منطقة عازلة داخل غزة، مع انسحاب كامل لاحقًا حين يتأكد انتهاء التهديدات.
التنسيق بين الولايات المتحدة والدول العربية يمكن أن يضمن بقاء المحادثات على المسار الصحيح، ويمنح الأمل في وضع حد نهائي للحرب
كما تتضمن إنشاء مجلس سلام يشرف على إدارة القطاع، وتعيين هيئة تكنوقراطية فلسطينية لإدارته، بالإضافة إلى قوة استقرار دولية تتولى الأمن، وانطلاق عملية إعمار واستثمار واسعة في القطاع.
وتشمل الخطة أيضًا إصلاح السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تمهيدًا لإعادة توحيدها سياسيًا مع غزة وتهيئة الطريق أمام حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم.
ويستدعي تحقيق هذه الأهداف مفاوضات شائكة حول مسائل فنية وسياسية عديدة، مثل كيفية ومواعيد انسحاب القوات الإسرائيلية، وتحديد هوية الدول المشاركة في قوة الاستقرار الدولية ومناطق انتشارها ومهامها.
وحتى الآن، أعلنت مصر والإمارات أن هذه القوة ستنتشر عند المعابر الحدودية، بينما تتولى قوات أمن فلسطينية مدرّبة في مصر والأردن حفظ الأمن الداخلي. غير أن هذه القوة، مثلها مثل إسرائيل، قد تواجه تحديات كبيرة، من أبرزها احتمال أن تسعى حماس إلى إخضاع العشائر الغزية التي تعاونت مؤخرًا مع إسرائيل، في محاولة لاستعادة السيطرة على القطاع.
ويرى دينيس روس، المستشار في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وأستاذ بجامعة جورجتاون، أنه رغم صعوبة الطريق، هناك أسباب تدعو إلى الأمل. فالعوامل التي أفضت إلى المرحلة الأولى يمكن أن تدفع نحو إنجاح المرحلة الثانية.
وتبدو الولايات المتحدة قادرة على مواصلة الضغط على إسرائيل، فيما تواصل الدول العربية الضغط على حماس. كما يمكن لواشنطن وشركائها استخدام قنوات الاتصال التي أُنشئت خلال المرحلة الأولى لتحديد ملامح قوة الاستقرار الدولية وتطوير تعاون بين إسرائيل والدول العربية لإقامة إدارة أفضل وأكثر سلمية في غزة.

وتم التوصل إلى وقف إطلاق النار الحالي بفضل الرسالة الواضحة التي وجّهها ترامب إلى جميع الأطراف بضرورة إطلاق سراح الرهائن وإنهاء الحرب، وهو ما أكد مجددًا حقيقة راسخة مفادها أن الولايات المتحدة تمتلك النفوذ الأكبر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1977، واشنطن تملك 99 في المئة من أوراق اللعبة.
وفي الأسابيع الأخيرة، مارس ترامب ضغوطًا قوية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقبول الاتفاق. فبينما كان نتنياهو قادرًا في السابق على مقاومة ضغوط الرئيس جو بايدن مستندًا إلى دعم الجمهوريين، لم تكن لديه مساحة مناورة مماثلة مع ترامب الذي يحظى بنفوذ كبير داخل معسكر نتنياهو نفسه.
وفي المقابل، كان لترامب دور حاسم في التأثير على حماس عبر الدول العربية وتركيا التي تمتلك نفوذًا على الحركة. وتريد هذه الدول علاقات قوية مع ترامب وتسعى للاستفادة من عهده، وهو ما يمنحه تأثيرًا غير مباشر على حماس. وقد رأت تلك الدول أن الوقت قد حان لإنهاء الحرب، فمارست ضغوطًا حقيقية على الحركة لتقبل بالخطة الأميركية.
وتعود رغبتها في التقارب مع ترامب إلى أسباب متعددة؛ فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى للحصول على مقاتلات إف-35، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد ال نهيان يسعيان إلى تعاون أميركي في مجالات الذكاء الاصطناعي والدعم العسكري، كما لاحظ الجميع أن قطر حصلت على التزام أمني من ترامب يعادل تقريبًا المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي ( الناتو).
وأما الدول العربية الكبرى، مثل مصر والأردن والسعودية والإمارات، فهي تسعى لإنهاء الحرب لأنها تعرقل خططها التنموية. ولذلك، فضلت ممارسة الضغط على حماس مقابل أن يقنع ترامب إسرائيل بوقف الحرب.
وفي المقابل، بدأت إسرائيل تدرك أنها رغم إنجازاتها العسكرية في إضعاف إيران ووكلائها، قد خسرت الحرب السياسية. فدبلوماسيًا، لم يسبق لها أن كانت بهذا القدر من العزلة، إذ بدأت دول أوروبية عديدة تعترف بدولة فلسطين وتنتقد ما تصفه بجرائم حرب في غزة، فيما خرجت احتجاجات ضخمة ضد إسرائيل في شوارع أوروبا.
وحتى في الولايات المتحدة، تراجع الدعم الشعبي لإسرائيل بين الديمقراطيين والمستقلين وجيل الشباب من الجمهوريين. ومع أن ترامب حماها من الضغوط الدولية، إلا أن الواقع يفرض على إسرائيل أن تختار بين العزلة أو التسوية، وهو ما دفع نتنياهو في النهاية إلى قبول إنهاء الحرب.
وقد تحاول حماس لاحقًا خرق شروط الهدنة لاستعادة السيطرة، مما قد يشعل الحرب مجددًا، لكن من المتوقع أن تتصدى قوة الاستقرار والإدارة المؤقتة لهذه المحاولات.

وسيولّد تنفيذ المرحلة الأولى زخمًا نحو المرحلة الثانية لأن أحدًا لن يرغب في تحمّل مسؤولية استئناف القتال، لكن إدارة ترامب مطالبة بالتحرك بسرعة لوضع تفاصيل واضحة للمرحلة التالية تشمل آليات نزع السلاح وترتيبات الانتشار الأمني وضمان توزيع المساعدات بعيدًا عن قبضة حماس.
وتدرك الدول العربية اليوم أن تجاهل القضية الفلسطينية قد يهدد أولوياتها الداخلية، لذلك فهي أكثر استعدادًا لتحمل مسؤولية مباشرة في إعادة بناء غزة وإصلاح السلطة الفلسطينية، بما في ذلك تنحية محمود عباس وتعيين قيادة جديدة تحظى باحترام دولي.
والهدف هو توحيد غزة والضفة سياسيًا وإيجاد سلطة فلسطينية قابلة للحياة، وهو ما سيشجع ترامب على الضغط على إسرائيل لوقف حربها في غزة ووقف توسعها في الضفة.
وأما إسرائيل، فعليها التعاون مع العرب في إعادة بناء غزة ودعم إصلاح التعليم هناك وقبول سلطة فلسطينية جديدة لإدارة القطاع. وفي المقابل، ينبغي على الدول العربية الحفاظ على انفتاحها تجاه إسرائيل والعمل على ترميم العلاقات التي تضررت خلال الحرب.
ويختم روس بالقول ” الطريق أمام السلام ليس سهلًا، لكنه أفضل بكثير من خيار العودة للحرب. فالتنسيق بين الولايات المتحدة والدول العربية يمكن أن يضمن بقاء محادثات حماس وإسرائيل على المسار الصحيح، ويمنح الأمل في وضع حد نهائي لهذه الحرب المدمّرة على غزة.