في مقابلة نادرة مع قناة عبرية: عباس يربط هدنة غزة بالسلام مع إسرائيل
القدس - أعرب الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في مقابلة نادرة مع القناة التلفزيونية إسرائيلية 12 الخميس عن أمله في أن يسود "السلام والأمن والاستقرار" بين الفلسطينيين والدولة العبرية.
وتُعد هذه المقابلة التي أجريت معه في رام الله، مقرّ السلطة الفلسطينية، بحد ذاتها حدثا سياسيا استثنائيا، حيث تأتي في سياق سياسي وإقليمي بالغ الحساسية، بعد إعلان الولايات المتحدة عن اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
ورحب عباس بالإعلان عن الهدنة، معتبرا أنّ "ما حدث اليوم كان يوما عظيما جدا، كما عبر عن تطلعاته الكبرى.
وقال "لقد تأمّلنا أو نتأمّل الآن، أن يقف شلال الدم هذا الذي يحصل في بلادنا، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية والقدس"، مضيفا "اليوم، نحن سعداء أنّ شلال الدم قد توقّف ونأمل أن يستمرّ، وأن يسود السلام والأمن والاستقرار بيننا وبين إسرائيل"، ليقرن بذلك وقف العنف المؤقت بتطلعات سياسية أوسع وأكثر استدامة تتجاوز غزة إلى علاقة شاملة مع إسرائيل.
ويظهر هذا الربط رغبة السلطة الفلسطينية في استغلال لحظة الهدوء للضغط باتجاه مسار سياسي شامل، يضع أزمة غزة ضمن إطار تسوية أكبر للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
وتشير هذه التصريحات إلى أن السلطة الفلسطينية، برئاسة عباس، تحاول إعادة تثبيت دورها كشريك تفاوضي رئيسي لا يمكن تجاوزه، خصوصا في خضم الجهود الدولية لوضع ترتيبات لحكم غزة ما بعد الحرب.
ويُعد هذا المسعى ضروريا للسلطة التي تواجه تحديات شرعية متزايدة داخليا، إضافة إلى الضغوط الدولية المستمرة للقيام بإصلاحات جوهرية قبل أن تتمكن من لعب أي دور مستقبلي في إدارة القطاع.
وردّا على سؤال بشأن إصلاح السلطة الفلسطينية والمطلب الإسرائيلي بأن تتوقف عن دفع رواتب لعائلات الفلسطينيين الأسرى في سجون الدولة العبرية، أكد عباس التزام السلطة بالمسار الإصلاحي قائلا "أقول بصراحة أننا وضعنا خطة إصلاح، ومن ضمن هذه الخطة رواتب الأسرى التي اتفقنا فيها مع أميركا ووافقت عليها أميركا".
ويكشف هذا التصريح عن نسق متقدم من التفاهمات والتنسيق المباشر الذي يربط رام الله بالإدارة الأميركية، تحديدا فيما يخص ملف رواتب الأسرى، الذي يُعد من أكثر القضايا حساسية ورمزية في الوعي الوطني الفلسطيني.
وينظر إلى المبادرة الاستباقية كخطوة تكتيكية حذرة تهدف من خلالها السلطة إلى نزع فتيل الضغط الإسرائيلي المتصاعد عبر تقديم تنازلات مهيكلة ضمن إطار اتفاق دولي، الأمر الذي يسمح لها بمحاولة الموازنة الصعبة بين الحفاظ على الدعم المالي والسياسي لعائلات الأسرى كواجب وطني، وبين استيعاب وإرضاء المطالب الدولية الملحة المتعلقة بالإصلاح والشفافية المالية.
وتعزز هذه الخطوات بالمرسوم الرئاسي الذي أصدره عباس في فبراير الماضي، والذي ألغى قوانين وأنظمة تتعلق بدفع مخصصات لعائلات الشهداء والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وإحالتها إلى مؤسسة حكومية موحدة.
وكان الأسرى قبل صدور هذا المرسوم يخضعون لمجموعة أنظمة وقوانين خاصة بهم، منها "النظام الخاص بالفئة العليا للأسرى المحررين" و"قانون الأسرى والمحررين"، والتي كانت تنظم صرف مخصصات للأسرى بناءً على السنوات التي أمضوها في السجون الإسرائيلية، وتؤمن لهم التأمين الصحي والوظائف وغيرها من الامتيازات.
وتشكّل هذه الإجراءات مجتمعة خارطة طريق فلسطينية داخلية، تستهدف بناء أساس قانوني ودستوري صلب للدولة المنشودة، وتأتي بالتزامن مع تزايد الضغوط الدولية لإنهاء الحرب، وتنامي الاعتراف الدولي بدولة فلسطين.
وشدد الرئيس الفلسطيني على أن بقية أنواع الإصلاح، التي تشمل "التعليم والمال والصحة والأمن"، هي الآن "في طور التطبيق، بعضها طُبّق والبعض الآخر يجب أن نستمر فيه لتطبيقه".
وأوضح أن السلطة الفلسطينية ستمضي قدما على طريق هذا المسار الإصلاحي لكي تصبح "سلطة يُضرب بها المثل وسلطة قادرة على أن تستمر بقيادة الشعب الفلسطيني".
ويأتي هذا التركيز على الإصلاح استجابة للمجتمع الدولي الذي يطالب السلطة بمكافحة الفساد الذي تغلغل في مفاصل مؤسساتها، كشرط لضمان الدعم الخارجي والاعتراف بأهليتها للعب دور مستقبلي حاسم في قطاع غزة.
وتعكس مقابلة عباس النادرة مع وسيلة إعلام إسرائيلية استراتيجية واضحة للسلطة الفلسطينية في التعامل مع الأزمة الراهنة.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى إيصال رسائل متوازية ومزدوجة إلى الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، حيث تركز إحدى هذه الرسائل على إظهار استعداد حقيقي وجاد للتعاون الأمني والسياسي الفعال تحت شعار "السلام والأمن والاستقرار"، وهي لغة دبلوماسية موجهة بوضوح ومباشرة إلى الجمهور وصناع القرار في إسرائيل والولايات المتحدة لتعزيز الثقة.
وفي المقابل، تؤكد الرسالة المغايرة على ثوابت الإدارة الفلسطينية، حيث تشدد على أن أي ترتيبات مستقبلية لإدارة قطاع غزة يجب أن تنبع من "توافق وطني شامل" بقيادة السلطة الفلسطينية حصرا، مع ربط ذلك بالتزامها الثابت بالإصلاحات الداخلية التي ترمي إلى تعزيز شرعيتها واستعادة قدرتها على القيادة الفعالة.
وتشير خلفيات النزاع الطويلة والممتدة إلى أن الضغط الدولي، وخصوصا الأميركي، هو المحرك الأساسي لأجندة الإصلاح، خاصة بعد أن أثبتت الحرب الحالية ضرورة وجود كيان فلسطيني موحد وفعال لإدارة الأراضي الفلسطينية.
ويضع إعلان عباس عن التفاهم مع أميركا حول رواتب الأسرى الكرة في ملعب واشنطن، مطالبا إياها بتقديم الدعم الكامل للجهود الإصلاحية والموقف السياسي للسلطة.
وينتظر أن تساهم هذه التصريحات في تشكيل النقاشات القادمة حول اليوم التالي للحرب، وإعادة تحديد دور السلطة الفلسطينية في معادلة السلام والأمن الإقليميين.
ويبقى التحدي الأكبر أمام عباس هو تحويل هذا الأمل في "السلام والأمن" إلى واقع ملموس يحظى بتأييد الشارع الفلسطيني الذي لا يزال منقسما ومحبطا من غياب الأفق السياسي.