في الشمال السوري.. مناهج قسرية تواجه الرفض

قسد تحظر منهاج دمشق التعليمية في مناطق سيطرتها.
الثلاثاء 2025/09/09
التعليم حق أصيل للأطفال

في شمال سوريا وشرقها، يطلّ التعليم اليوم بوصفه ساحة صراع جديدة. لم يعد الصف المدرسي مكانا بريئا للقراءة والكتابة والحلم بالمستقبل، بل صار مسرحا للشدّ والجذب بين قوى متنازعة، لكل منها مشروعها وأدواتها. وفي قلب هذا المشهد جاء قرار قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بحظر منهاج دمشق التعليمي في مناطق سيطرتها، ليكشف بوضوح أن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الذاكرة والوعي، على المعنى ذاته الذي يُصاغ في دفاتر التلاميذ وكتبهم.

القرار شمل أكثر من مئتي مدرسة في الحسكة والقامشلي وأريافهما، كان يدرس فيها نحو 240 ألف طالب، أي ما يقارب ربع مليون طفل وفتى وشاب. هؤلاء وجدوا أنفسهم فجأة أمام فراغ تعليمي أو أمام خيار إجباري: القبول بمناهج “الإدارة الذاتية” التي لم تنل أي اعتراف رسمي محلي أو دولي، وتُتهم بأنها “مؤدلجة”، أو الانقطاع عن الدراسة. هنا تحوّل التعليم إلى ورقة ضغط سياسية، وسلاح ناعم بيد سلطة الأمر الواقع.

ليست هذه المرة الأولى التي يُزج فيها بالتعليم في صراع النفوذ. فمنذ عام 2014، حين شرعت “الإدارة الذاتية” في تجريب مناهجها الخاصة، بدا واضحاً أن الأمر يتجاوز التربية إلى مشروع أوسع: إعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يتناسب مع سردية محددة عن الهوية والحدود والتاريخ. وهكذا صارت الحروف التي يتعلمها الأطفال في الكُتُب أشبه بخنادق جديدة، يحفرها كل طرف ليثبت أقدامه في أرض متحركة.

الصف المدرسي لم يعد مكانا للقراءة والكتابة، بل صار مسرحا للشدّ والجذب بين قوى متنازعة، لكل منها مشروعها

ردود الفعل جاءت سريعة وحادة. الأهالي، الذين يعرفون أن مستقبل أبنائهم على المحك، رفضوا القرار بشدة. امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات احتجاج، وارتفعت الأصوات تطالب بتأجيل القرار أو إلغائه. بل وهدّد كثيرون بالهجرة الجماعية نحو دمشق ودير الزور والمحافظات الداخلية، إن استمر فرض المناهج بالقوة. في مجتمع أنهكته الحروب والنزوح والفقر، لم يعد بوسع الناس تحمّل عبء جديد يُضاف إلى كاهلهم: أن يُسلب منهم حقهم في اختيار ما يتعلمه أبناؤهم.

وللمرة الأولى، طالت القرارات مدارس الطوائف المسيحية التي كانت، طوال سنوات الحرب، محيّدة عن التجاذبات، تُدرّس منهاج الدولة السورية وتحافظ على استقلاليتها. دخولها في دائرة الحظر فجّر قلقا إضافيا، إذ بدا أن “الإدارة الذاتية” لم تعد تقبل بأي استثناء، وأن مشروعها يسعى لفرض ذاته على الجميع بلا استثناء.

المناهج التي طرحتها قسد لا تكتفي بتعليم اللغات والعلوم، بل تحمل بين صفحاتها خطابا سياسيا وهوياتيا واضحا. تتحدث عن “روج آفا” بدلاً من سوريا، ترسم خرائط لـ”كردستان الكبرى”، وتسلّط الضوء على “مجازر العثمانيين ضد الكرد”، بينما تغيب عنها الشخصيات العربية والإسلامية التي صنعت تاريخ المنطقة. حتى الرموز الدينية لم تسلم من التغييب أو التشويه؛ فقد مُنع تعليم القرآن الكريم في بعض المدارس، وأدرجت نصوص تُعتبر مسيئة للإسلام ونبيه.

الأهالي رأوا في هذه المناهج محاولة لسلخ أبنائهم عن جذورهم، وعن الإرث الثقافي والديني الذي تشكّلت عليه هويتهم لقرون. ليس الأمر خلافا تربويا بسيطا حول طرق التدريس أو أساليب التقييم، بل معركة على روح المكان وذاكرته.

المفارقة المؤلمة أن الكثير من قياديي قسد أنفسهم يرسلون أبناءهم إلى مدارس النظام أو إلى مدارس خاصة خارج مناطق سيطرتهم، للحصول على شهادات معترف بها تؤمّن مستقبلاً جامعيا. هذا التناقض العميق كشف للأهالي أن القصة ليست سوى لعبة سياسية على حساب الفقراء والمهمّشين، الذين لا يملكون خيارا سوى الرضوخ أو الانقطاع.

بنية تحتية تعليمية منهارة
بنية تحتية تعليمية منهارة

في منبج عام 2021 أضرب نصف الكوادر التعليمية رفضاً للمناهج الجديدة. وفي دير الزور قدّم عشرات المعلمين استقالاتهم الجماعية عام 2024. كان ذلك صرخة احتجاج في وجه سياسة تصادر ضمير المعلّم قبل عقل الطالب.

المأساة لا تقف عند حدود المناهج. فالبنية التحتية التعليمية في مناطق سيطرة قسد تكاد تكون منهارة. مئات المدارس تحوّلت إلى مقار عسكرية أو معسكرات تدريبية، وأخرى تُركت خراباً بلا ترميم. في دير الزور حوّلت المجتمعات المحلية 85 منزلاً إلى مدارس بديلة، فيما جلس آلاف الطلاب على الأرض الطينية لأن المقاعد لم تعد متوفرة. الأرقام الرسمية تتحدث عن أكثر من 700 مدرسة مدمّرة.

ميزانية التعليم التي أعلنتها “الإدارة الذاتية” لم تتجاوز مليوني دولار لعام 2020 – 2021، ثم هبطت إلى أقل من مليون في 2022 – 2023، في وقت تُصرف فيه الموارد بسخاء على الأنشطة العسكرية. هكذا أصبح التعليم هامشاً، فيما يتصدّر السلاح المشهد.

حتى الكنائس في الحسكة لم تلتزم الصمت. أعلنت رفضها المطلق للمناهج غير المعترف بها، مؤكدة أن مدارسها مرخّصة منذ ما قبل الاستقلال، وأنها لن تسمح بفرض منهج مؤدلج على أبنائها. الكنيسة، هنا، لم تكن تدافع عن أبنائها فقط، بل عن مفهوم أوسع: أنَّ التعليم يجب أن يبقى مساحة جامعة، لا أداة لتقسيم المجتمع وزرع الشقاق بين مكوّناته.

التعليم ليس وحده المستهدف. سياسة “بسط اللغة الكردية ” التي تبنّتها قسد امتدت إلى الجغرافيا ذاتها: تغيير أسماء المدن والقرى العربية إلى أسماء كردية. رأس العين صارت “سريه كانيه”، تل أبيض أصبحت “كري سبي”، وجبل عبدالعزيز غدا “كوزال”. حتى المعالم الأثرية والدينية لم تسلم من إعادة التسمية. إنها محاولة لمحو الذاكرة الجمعية عبر تغيير العلامات الكبرى للمكان، تماماً كما يُمحى التاريخ من الكتب.

قبل الحرب كانت الدولة السورية قد قطعت أشواطاً طويلة في مكافحة الأمية، حتى وصلت إلى نسب متدنية على مستوى الشرق الأوسط. اليوم، ارتفعت نسبة الأمية في الحسكة إلى 35 في المئة، بحسب بيانات رسمية، نتيجة تدمير المدارس ومنع المناهج الرسمية. المفارقة أن أطفال الأمس كانوا يتعلمون في مدارس حديثة، بينما أطفال اليوم يُزج بهم في معسكرات تدريبية أو يجلسون على الأرض بلا مقاعد.

الجرح الأعمق يتمثل في تجنيد الأطفال. تقارير الأمم المتحدة وثّقت تسليح أكثر من 700 طفل سنوياً من قبل قسد، فيما تشير مصادر محلية إلى أن العدد أكبر بكثير. يُختطف الأطفال من قراهم، ويُزج بهم في معسكرات على الحدود العراقية أو في القامشلي وعامودا، ليتحولوا إلى جنود صغار. هكذا يُنتزع القلم من يد الطفل ليُستبدل ببندقية، ويُختصر المستقبل في موتٍ مبكر على جبهة نائية.

طلاب مدارس لا يجدون مقاعد للدراسة والتعلم
طلاب مدارس لا يجدون مقاعد للدراسة والتعلم

ما يحدث في شمال سوريا وشرقها ليس مجرد أزمة تعليمية، بل إعادة صياغة للوعي الجمعي. الكتب المدرسية ليست أوراقاً محايدة، بل رسائل سياسية تتسلل إلى عقول الأطفال. إنها محاولة لخلق جيل جديد يحمل هوية بديلة، ويؤمن بخرائط جديدة، ويعتبر أن القتال سبيل وحيد لتحقيق حلم مفترض.

الأثر النفسي على الأطفال هائل. طالبٌ يُنتزع من مدرسته ليُفرض عليه منهج جديد، أو يُمنع من متابعة تعليمه، أو يُزج به في معسكر. كيف سيتشكّل وعيه؟ كيف سيتعامل مع الشعور بالاغتراب داخل وطنه؟ كيف سيبني مستقبلاً على أرض يُقال له كل يوم إنها ليست أرضه؟

الأهالي بدورهم يعيشون حالة عميقة من القلق. بين خيار الهجرة وخيار الرضوخ، يشعرون بأن مستقبل أبنائهم يُسرق أمام أعينهم. وهذا يولّد فجوة اجتماعية خطيرة، تهدّد بتفكك النسيج المحلي الذي طالما كان متنوعاً وغنياً.

الأصابع الخارجية واضحة. واشنطن، التي تدعم قسد عسكرياً، تُتّهم بأنها تغضّ الطرف عن انتهاكاتها التعليمية، رغم أن ذلك يتعارض مع قوانينها الخاصة بحماية الأطفال. المجتمع الدولي، بدلاً من أن يكون ضامناً لحقوق الطفل، صار شريكاً بالصمت في انتهاكها.

إذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن المنطقة أمام مستقبل مظلم: جيل محروم من تعليم معترف به، جغرافيا تُمحى معالمها، هوية تُستبدل بأخرى، وأطفال يُزج بهم في ساحات القتال بدلاً من مقاعد الدراسة.

لكن وسط كل هذا الظلام لا يزال هناك صوت الشارع، صوت الأهالي والكنائس والمعلمين. هذا الصوت، وإن بدا ضعيفاً أمام ضجيج السلاح، إلا أنه يذكّر بأن المجتمع ما زال يقاوم، وأن التعليم ليس ملكاً للسلطات المتصارعة، بل هو حق أصيل للأبناء، وجسر نحو مستقبل لا يمكن لأحد أن يحتكره.

15