في الحرب كما في السلم.. أراضي العراق مجال سائب لتركيا وحزب العمال الكردستاني
جبال قنديل (العراق)- بدت السلطات العراقية طرفا مغيّبا عن قرارين مصيريين اتخذتهما تركيا وغريمها التاريخي حزب العمال الكردستاني ويتصلان بشكل وثيق بأمن العراق وسيادته على أراضيه.
وبعد أيام قليلة من إعلان تركيا بشكل أحادي عن مصادقة برلمانها على تمديد إرسال القوات العسكرية إلى شمال العراق، أعلن حزب العمال الذي دخل في مسار سلمي بعد صراع مسلح خاضه طوال أربعة عقود ضد القوات التركية، الأحد، عن سحب جميع مقاتليه من داخل الأراضي التركية إلى شمال العراق، وذلك كخطوة لإثبات حسن النوايا تجاه السلم.
ولا يتناقض المسار السلمي بين الحزب وتركيا مع توجّهات العراق الراغب في التخلّص من عبء الصراع المسلّح الذي دارت أهم حلقاته داخل أراضيه، لكن المشكلة تتلخّص في كون البلد الذي ساهم في تسهيل إطلاقه تحول إلى مجرّد مجال جغرافي للسلم كما كان مجالا للحرب دون أن يكون صاحب قرار بشأنهما وبما يتلاءم مع مصالحه إذ أن خطوة مثل نقل جميع المقاتلين إلى الداخل العراقي لا تخلو من محاذير ومخاطر وخصوصا إذا فشل المسار أو انتكس.
تقدم السلام مع حزب العمال لا يختبر فقط النوايا السلمية لأنقرة، ولكن أيضا نواياها بشأن تدخلها العسكري في أراضي جيرانها
وأثار قرار الحزب حفيظة جهات عراقية سارعت إلى مطالبة حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بالتحرّك فورا ضدّ القرار.
وحذّرت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب العراقي، الأحد، من خطورة انسحاب عناصر حزب العمال من تركيا نحو الأراضي العراقية ووجهت رسالة عاجلة متعلقة بهذا الشأن إلى رئيس الوزراء.
واعتبر عضو اللجنة مختار الموسوي أنّ قرار الانسحاب “له خطورة على الأمن القومي العراقي الداخلي، وهذا الأمر سوف يجعل العراق طرفا في الصراعات الإقليمية، وله تداعيات خطرة وكبيرة على مختلف الأصعدة.”
وقال متحدثا لوكالة شفق نيوز الإخبارية إن “انسحاب عناصر حزب العمال كان يفترض ألا يكون نحو الأراضي العراقية، وكان من المفترض أن ينسحبوا نحو سوريا أو إيران، أو حتى شمال أفغانستان وباكستان لكن تلك الدول ترفض ذلك.”
وأضاف قوله “سنقدم استفسارا رسميا إلى الحكومة العراقية لمعرفة ما إذا كانت تعرف بهذا الانسحاب وهل وافقت عليه وما هي الخطوات بخصوص ذلك لمنع أي مخاطر وتداعيات على الأمن القومي العراقي.”
وبعد محادثات مع السلطات التركية عبر حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في أكتوبر 2024، أعلن حزب العمال الكردستاني حل نفسه في مايو الماضي تلبية لدعوة مؤسسه عبدالله أوجلان، بعد أكثر من أربعين سنة من القتال ضد القوات التركية، خلّفت نحو خمسين ألف قتيل.
وقال الحزب الأحد في بيان تلي بالكردية والتركية “بدأنا خطوة سحب قواتنا من تركيا تحسبا لاحتمال خطر الصدامات وإزالة الأرضية لاحتمال وقوع أحداث غير مرغوب فيها،” وذلك خلال حفل حضره مراسل وكالة فرانس برس في جبال قنديل بشمال العراق.
ولا يشكّل التقدّم في مسار إنهاء الصراع المسلّح اختبارا لتركيا فقط بشأن نواياها السلمية تجاه الحزب، لكنّه يختبر أيضا نواياها بشأن تدخلها العسكري داخل أراضي جاريها العراق وسوريا، إذ يعتقد مراقبون أن ذلك التدخل له، بالإضافة إلى أبعاده الأمنية، أبعاد سياسية وأيديولوجية متعلقة بطموحات تركيا للتوسّع وبسط النفوذ حتى أنّ أردوغان كثيرا ما قدّم نفسه حاملا لإرث الإمبراطورية العثمانية.
مختار الموسوي: قرار الانسحاب له خطورة على الأمن القومي العراقي الداخلي
وشارك في مراسم جبل قنديل 25 مقاتلا بينهم ثلاثة قياديين انتقلوا من تركيا إلى شمال العراق، وقفوا أمام لافتتين ضخمتين تحملان صورة لأوجلان البالغ 76 عاما، وفق مراسل وكالة فرانس برس.
ودعا الحزب الأحد السلطات التركية إلى المضي قدما في الإجراءات القانونية اللازمة لحماية عملية السلام والسماح لمسلحيه بالانتقال إلى العمل السياسي الديمقراطي.
وقال “يجب اعتماد قانون العفو الخاص بحزب العمال الكردستاني كأساس، وللمشاركة في السياسة الديمقراطية يجب إصدار القوانين المتعلقة بالحريات اللازمة والاندماج الديمقراطي فورا.”
وقال القيادي في الحزب صبري أوك للصحافيين الحاضرين في الحفل “يجب اتخاذ خطوات هامة وترتيبات قانونية لعملية متوافقة مع الحرية،” في إشارة إلى القوانين التي تحدد مصير المقاتلين الذين يتخلون عن الكفاح المسلح. وأضاف “نريد قوانين خاصة بهذه العملية، وليس مجرد عفو.”
وأشادت تركيا الأحد بما أعلنه حزب العمال الكردستاني. وقال عمر جيليك المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الذي يتزعّمه الرئيس رجب طيب أردوغان “مع التطورات التي حصلت…، فإن قرار حزب العمال الكردستاني بالانسحاب من تركيا والإعلان عن خطوات جديدة نحو عملية نزع السلاح هما نتيجتان ملموستان للتقدم الذي تم إحرازه.”
وفي يوليو الماضي أجرى مقاتلو الحزب مراسم لإلقاء السلاح في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، حيث أحرق 30 مقاتلا بينهم أربعة قياديين أسلحتهم في ما وصفه أردوغان بأنه “خطوة مهمة نحو تركيا خالية من الإرهاب.”
وشكّلت تركيا لجنة برلمانية تعمل على وضع القواعد الأساسية لعملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، والتي تتضمن إعداد الإطار القانوني لانتقال الحزب ومقاتليه إلى العمل السياسي.
ومن المقرر أن يستمر عمل اللجنة حتى نهاية العام الجاري، مع إمكان التمديد لها لشهرين إضافيين في حال الضرورة، حسب قول رئيس البرلمان التركي نعمان كورتولموش في أغسطس الماضي.
وتضم اللجنة 48 نائبا بينهم 25 من الحزب الحاكم (حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية) ومن صفوف المعارضة عشرة من حزب الشعب الجمهوري (الديمقراطي الاجتماعي) وأربعة من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب المؤيد للأكراد.
وقال أوك الأحد “يجب على اللجنة البرلمانية أن تذهب فورا إلى القائد آبو وتستمع إليه، هذا هو المفتاح.” ورأى أن “حلّ القضية الكردية مستحيل في ظل سجن القائد آبو. يجب أن يعيش ويعمل بحرية. يجب ضمان حريته الجسدية.”
وإلى جانب قواعد المصالحة، ستحدد اللجنة أيضا مصير أوجلان الذي يمضي عقوبة السجن مدى الحياة في حبس انفرادي في جزيرة إيمرالي قبالة إسطنبول منذ عام 1999.
وأفادت وسائل إعلام تركية بأن وفدا من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب سيلتقي أردوغان في الأيام المقبلة قبل السفر إلى إيمرالي للقاء أوجلان. ويُشكّل إطلاق سراح أوجلان أبرز مطالب حزب العمال الكردستاني في إطار عملية السلام مع تركيا.
ويرى محللون أن عرض تركيا للسلام منح أوجلان فرصة للابتعاد عن الكفاح المسلح، وذلك في ظلّ إضعاف حزب العمال الكردستاني وإرهاق الرأي العام الكردي نتيجة عقود من الاقتتال.
ومنذ المحادثات التي انطلقت في أكتوبر 2024، استقبل أوجلان عدة مرات أفرادا من عائلته ومفاوضين من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب. وتمكّن الشهر الماضي من مقابلة محاميه للمرة الأولى منذ عام 2019.
ولجأ معظم مقاتلي الحزب في السنوات العشر الماضية إلى مناطق جبلية في شمال العراق، حيث تقيم تركيا منذ 25 عاما قواعد عسكرية لمواجهتهم، وشنّت بانتظام عمليات برية وجوية ضدّهم.
ويأمل الأكراد في تركيا أن يمهّد تخلي الحزب عن الكفاح المسلح لتسوية سياسية مع أنقرة، تتيح انفتاحا جديدا تجاه هذه الأقلية التي تُشكل نحو 20 في المئة من سكان البلد البالغ عددهم 85 مليون نسمة.