فيصل لعيبي تشكيلي حمل تفاصيل العراق وحكاياته إلى العالم
بلوحات زاهية الألوان توثق الحياة اليومية والتراث الشعبي العراقي، وبأسلوب يجمع بين الواقعية والتعبير الرمزي، يستلهم من المحلية ومنفتحا على العالمية، أثبت الفنان العراقي فيصل لعيبي اسمه واحدا من أبرز الفنانين العراقيين الذين صنعوا تجربة بصرية مميزة وثرية نقلت المشهد التشكيلي العراقي إلى العالمية.
نشأ الفنان العراقي فيصل لعيبي وترعرع في كنف عائلة بصراوية ذات عمق ثقافي وفني، وهو ما أسهم بشكل مباشر في تنشئته بفكر سليم وإبداعي تجاه الحياة والفن، هذه الخلفية العائلية مكنته من تقديم عطاء فني ثري ومتواصل.
وهذا الحافز الجوهري والأساسي، الذي اكتسبه من عائلته/ بيئته، انطلق منه نحو سماء تكوين الشخصية، والاستقلال الفكري الحصين، الذي يبعده عن كل الشوائب السلبية.
بصمة عميقة
تتوهج التجربة الفنية العراقية على امتداد تاريخها بأسماء لامعة خطت مسيرة الفن التشكيلي في بلاد الرافدين، ومن بين هذه الأسماء يبرز الفنان فيصل لعيبي كقامة فنية فريدة، ترك بصمة عميقة في المشهد التشكيلي المحلي والعربي. مسيرته الفنية ليست مجرد سلسلة من الأعمال، فقد قدّم إسهاماته لأكثر من ستة عقود متواصلة دون انقطاع.

إنها رحلة متواصلة من البحث والتعبير والتجديد، عكست هموم الوطن والإنسان، وتماهت مع التحولات التي شهدها العراق على مدى عقود.
ساهم وأقرانه في تأسيس ورسم مسار الفن العراقي المعاصر، منطلقين من رؤى ومبادئ أكاديمية وفكرية صحيحة وراسخة، دفعت به إلى مصاف الحركات الفنية العالمية.
بدأت رحلتهم برسوماتهم الموجهة لعالم الأطفال في دار ثقافة الأطفال ببغداد، ثم تطوروا لبناء أساليبهم الفنية الفريدة وهوياتهم الفنية الشخصية من خلال حضورهم القوي في عالم الرسم الكبير.
عندما نتعمق في عالم فيصل لعيبي نلمس بوضوح ما قدمه خلال مسيرته الفنية المتجددة، ونرى تقدمه الفني والفكري المستمر من خلال أبحاثه وعروضه ونتائجه الدائمة.
فيصل لعيبي فنان منغمس في عالم الرسم لا غير. يتميز برؤيته العميقة وتركيزه الكلي على الرسم، إلى درجة تشبه “الرهبانية”. منذ صباه وحتى اليوم، كان ولا يزال همه الوحيد هو كيفية إنتاج وتقديم لوحة توثق شيئا من عالم خياله الواسع وخلجاته النفسية أو استلهام عن واقعه في الحياة. يسلط الضوء على سعيه المستمر لترجمة ذلك إلى مشاهد فنية خالدة.
في بداياته رسم فيصل لعيبي المدينة والبيئة والطبيعة والأشخاص والصور الشخصية (البورتريه)، كان متسلحا بمفاهيم الفن الأكاديمي ومهارته الحرفية، وكل ما يمت إلى الرسم الكلاسيكي، في اللون والخط، مع اهتمام شديد بقواعده الصارمة في الضوء والظل والمنظور والإنشاء. وتُعتبر هذه العناصر الأساسية والصحيحة للفنان، ويجب إتقانها بجدية لتسهيل الاستكشافات والأبحاث الفنية المستقبلية.
هنا نلمس الشمولية المطلوبة في تدريب لعيبي وممارسته الإبداعية المبكرة، حيث يظهر أنه غطى بدقة الركائز الأساسية للفنون البصرية، التي تُعد أساسية لتطور أي فنان وابتكاره المستقبلي.
وساهم في نجاح لعيبي بشكل كبير ارتباطه الوثيق بمجموعة مختارة من زملائه الفنانين، الذين لم يكونوا أقل شأنًا منه في قدراتهم الفنية الهائلة. وشكلت هذه الزمرة أو المجموعة قوة فنية ضاربة أثرت لاحقا بعمق على المشهد الفني التشكيلي العراقي عموما.
هذا التفاني والتكريس الفني المبكر والمنافسة البنّاءة بين الزملاء والحب العميق لعالم الرسم مكن لعيبي من مواصلة رحلته الإبداعية وتقديم مساهماته المتميزة.
من البصرة إلى بغداد
عندما انتقل فيصل لعيبي من مسقط رأسه البصرة الفيحاء، حيث ولد عام 1947، إلى بغداد، حمل معه روح البصرة وجوهرها، حبها، ذكرياتها، وملاعبها، بكل تفاصيلها الدقيقة وعبيرها الأخاذ، وهي تلك المدينة التي كانت وما زالت مصدر إلهام للكثير من الفنانين والمبدعين. نشأته في بيئة زاخرة بالثقافة والتراث، وغنية بالمفردات البصرية من نخيل وأنهار وأسواق شعبية، صقلت موهبته المبكرة وفتحت آفاق رؤيته الفنية.
بدأ الفنان رحلته الأكاديمية بدخوله معهد الفنون الجميلة ببغداد، وقد أثرت هذه التجربة في مسيرته الفنية حيث منحته أدوات وتقنيات جديدة، دون أن تبعده عن جذوره الأصيلة وخصوصية هويته الفنية.
◄ أعمال لعيبي اتسمت بلمسة من منمنمات مدرسة الواسطي بهية التصوير، ولكن ضمن رؤيته المعاصرة
في بغداد انطلقت مسيرته الجديدة بطريقة مؤثرة وقوية، لقد سبق اسمه حضوره الفعلي، إذ بدأت أعماله المتنوعة تُحدث صدى واسعا.
وتراوحت مساهماته بين رسومات لمجلتي الأطفال الشهيرتين “مجلتي” و”المزمار”، ومنشورات أخرى لدار ثقافة الأطفال، والمجلات الثقافية والصحفية، وأبحاثه الواسعة في مجال الرسم للكبار.
كما كان لرسومات فيصل لعيبي، المنشورة بانتظام في مجلتي “مجلتي” و”المزمار”، أثر بالغ وعميق على القراء الشباب. وألهمت هذه الرسومات الآسرة الأطفال لتقليد أسلوبه والتعلم من تقنياته في الرسم والألوان والتكوين.
ومن اللافت للنظر أن العديد من الفنانين العراقيين المعروفين والفاعلين على الساحة الفنية اليوم ينتمون إلى ذلك الجيل من الشباب الذين تأثروا بأعمال لعيبي المبكرة. وهذا يشير بوضوح إلى دوره الأساسي في تشكيل الحس الفني للأجيال القادمة من الرسامين العراقيين.
وتتميز أعماله الفنية بأسلوبها الفريد الذي يمزج بين الواقعية والتعبيرية، مع ميل واضح نحو الرمزية في بعض الأحيان، ما يضفي على لوحاته عمقا فلسفيا ورؤية متعددة الأبعاد، وغالبا ما تتناول لوحاته مواضيع مستوحاة من الحياة اليومية العراقية، والشخصيات الشعبية، والمقاهي، والأزقة البغدادية، وهو بتصويرها يخلق أرشيفا بصريا للذاكرة العراقية.
هو فنان لا يخشى مواجهة القضايا الاجتماعية والسياسية، بل يستخدم فرشاته للتعبير عن الألم والأمل، عن الصمود والقسوة، وعن جمال الروح العراقية رغم كل الظروف.
لقد عاصر فيصل لعيبي فترات عصيبة جدا في تاريخ العراق، وتغيرات سياسية واجتماعية جذرية، رغم تغربه منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وقد انعكس هذا التأثير بوضوح على أعماله، فتحولت لوحاته إلى شهادات بصرية حية على مراحل مختلفة من تاريخ البلاد. مع ذلك، لم تفقد أعماله لمستها الإنسانية، وظلت تحتفي بالبساطة والجمال في خضم التعقيد.
منذ معرضه “النساء والشاعر”، والذي استلهم أعماله من قصيدة “قفا نبكِ” لامرئ القيس، متأثرا بمفاهيم “جماعة بغداد للفن الحديث” التي تزعمها الفنانان جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد، اتسمت أعماله بلمسة من منمنمات مدرسة الواسطي بهية التصوير، ولكن ضمن رؤيته المعاصرة. وقد بدت لوحات لعيبي للآخرين كبيرة الحجم، وكأنها تنتمي إلى فن الجداريات، واستمرت هذه المسيرة الفنية الثرية حتى معرضه الأخير “أوجاع ومسرات” الذي استضافته قاعة ميم في دبي عام 2015.
الأسلوب الكلاسيكي الفيصلي

نجح الفنان لعيبي في تطوير أسلوب فني فريد، بدمجه لعشقه العميق للرموز الفنية والفلكلورية العراقية مع اطلاعه على التجارب الفنية المعاصرة التي صادفها في المهجر. هذا المزيج الفني بين المحلي والعالمي أنتج صورا فنية مدهشة، تميزت بإتقان التكنيك وعمق المنظور وقوة التعبير البلاغي.
وتميّزت لوحات فيصل لعيبي بأسلوب “كلاسيك – فيصلي” (نسبة إلى اسمه)، وهو نهج يختلف عن اللوحات الكلاسيكية المعروفة في أوروبا (فرنسا وإيطاليا)، حيث تجنب لعيبي في هذا الأسلوب فخامة صور النبلاء والقصور، والتفاصيل الزخرفية البارزة التي طبعت ذلك الفن.
لم تتناول لوحات فيصل لعيبي المظاهر الرسمية أو الإيحاءات البيروقراطية، بل كرس فنه لتصوير الحياة اليومية للناس البسطاء. وتناولت أعماله دائما مشاهد من الأسواق والمقاهي، وتعمد أن يكون مصورا للفقراء والسيدات في البيوت والعشاق، إلى جانب أصحاب المهن المختلفة.
شملت الشخصيات التي ظهرت في لوحاته: البقال، والعامل في المطعم، والقصاب، والخياطة، وبائع الرقي، وبائع السوس، وبائع الفرارات، وبائعة الباقلاء، وغيرها الكثير. فضلا عن ذلك قدم لعيبي أعمالا تعبيرية إنسانية مثل: الشهداء، وتدمير الحضارات، ونساء في مأتم.
تخلّى الفنان، وهو الأستاذ المقتدر في الرسم الأكاديمي الكلاسيكي الصارم، عن هذا الأسلوب بدافع قناعة فنية راسخة لا ترفا أو تكبرا. ورغم هذا التحول يظل هذا المنهج الفني راسخا بعمق في جذوره وشرايينه. لقد صاغ لنفسه منهجا فنيا خاصا، يلتزم فيه بمنظور تعبيري واحد، مستلهما ما رسمه الفنان الواسطي. كما اهتم بتوثيق الجمال المعماري البغدادي، فأظهر الأيقونات المعمارية التي تتسم بها واجهات البيوت البغدادية، والبلاط الملون الذي يزين أرضيات الغرف الداخلية.
إنه اليوم واحد من أبرز الفنانين العراقيين المعاصرين، وأعماله معروضة في متاحف وصالات عرض عالمية، بالإضافة إلى مجموعات خاصة مرموقة، مسيرته الفنية هي قصة إصرار وشغف، قصة فنان لم يتخل عن هويته، وظل وفيا لمبادئه، محافظا على ارتباطه العميق بوطنه وشعبه، مخلدا ذاكرة العراق بضربات فرشاته الساحرة. إنه حقا ريشة ترسم الذاكرة العراقية بكل تفاصيلها وألوانها.
◄ المزيج الفني بين المحلي والعالمي أنتج صورا فنية مدهشة، تميزت بإتقان التكنيك وعمق المنظور وقوة التعبير البلاغي
وهنا يجدر التذكير بأن فيصل لعيبي تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1967، والتحق بأكاديمية الفنون عام 1968، أقام معرضه الشخصي الأول على قاعة مديرية الأرشاد عام 1966، ومعرضه الثاني على قاعة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين عام 1972.
كما شارك لعيبي في عدة معارض مشتركة؛ حيث أقام معرضا ليوم واحد مع الفنان نعمان هادي في قاعة جمعية التشكيليين عام 1973، ومعرضا آخر مع الفنانين صلاح جياد ونعمان هادي في قاعة كولبنكيان في العام نفسه. توالت بعد ذلك مشاركاته في أغلب المعارض التي أُقيمت في بغداد، وذلك حتى هجرته للوطن.
كما أن تجربته لا تقتصر على الرسم بخاماته المتعددة فحسب، بل امتدت لتشمل رسمه فن الكاريكاتير، بأسلوبه الفني المتميز الذي كان وسيلة أخرى للتعبير عن آرائه اللاذعة ونقده البنّاء للواقع. هذا التنوع في الوسائط يعكس مرونة الفنان وقدرته على توظيف أدوات مختلفة لخدمة رسالته الفنية.
لعيبي والكاريكاتير
يستذكر الفنان فيصل لعيبي في عدة لقاءات بداياته المبكرة مع فن الكاريكاتير، الذي مارسه بشكل مكثف خلال مراحل دراسته الابتدائية، ثم المتوسطة، فالثانوية، في محافظته البصرة، قبل أن يُعرف كرسام لوحات.
كانت مشاركاته الفنية بارزة في تلك الفترة، من خلال مساهماته لمدارس البصرة، وتحديدا قبل عام 1958، بعد ذلك طلبت منه مديرة مدرسة العزة الابتدائية للبنات رسم صفحة كاملة “ما يشاء” من أجل نشرها في مجلة الأنشطة المدرسية.
وظّف الفنان بداياته في الرسم الكاريكاتيري لاحقا عند إصداره لجريدة “المجرشة”، علاوة على ذلك لم يكن الكاريكاتير مجرد وسيلة فنية بالنسبة إليه؛ فقد كان بمثابة المتنفس الضروري له، وأصبح عنصرا لازما ومرجعا أساسيا في أغلب أعماله.
وكما تميزت مسيرته الفنية، تميزت أيضا مسيرته الصحفية في العراق بفترة نشاط مكثف امتدت من منتصف الستينات حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي. خلال هذه الفترة كان له دور بارز وبصمة واضحة في تأسيس عدد من المطبوعات الصحفية الرائدة التي تركت أثرا مميزا في المشهد الثقافي العراقي، من أبرزها مجلة “ألف باء”، والمطبوعتان الموجهتان للأطفال “مجلتي” و”المزمار”.
تجاوزت إسهاماته حدود العراق؛ ففي لندن وخلال فترة اغترابه شارك مع نخبة من المثقفين العراقيين في تأسيس جريدة “المجرشة”، التي صدر عددها الأول في العشرين من يوليو عام 1992، واستمرت في الصدور حتى العدد 72 في عام 2002. اشتهرت المجلة بطابعها النقدي اللاذع وأسلوبها الفكاهي الساخر، الذي يميل إلى “الضحكة السوداء”، تجلى ذلك عبر مقالاتها ورسوماته الكاريكاتيرية التي أبدعها بريشته، فضلا عن إسهامات رسامين كبار آخرين. و”المجرشة” قد تأسست وصدرت بتمويل الفنان فيصل لعيبي الذي أخذ على عاتقه تحمّل كل نفقاتها وأتعابها، ثم توزع مجانا، وقد أثرى صفحاتها أبرز الكتاب والصحافيين والسياسيين بمقالاتهم.