"عرج السواحل" دراما الوفاء والانتماء

خصوصية العرض المسرحي تكمن في انتمائه إلى بيئته، فالأحداث والوقائع والموجودات المادية والحسية جاءت منسجمة في وحدة كلية.
الاثنين 2025/10/13
عملية تشكيل بيئة العرض أشبه بكتابة في الفضاء المسرحي

د. رياض موسى سكران

عرضت مسرحية “عرج السواحل” الإماراتية التي قدمتها فرقة مسرح أم القيوين على المسرح الوطني في بغداد في اليوم الثاني من أيام مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الكيفية التي يكشف من خلالها المخرج عيسى كايد ما يفكر فيه، وما يريد أن يقوله وينقله، كما ينبغي أن يكون، وذلك يعني أنه يقدم خطاباً بوساطة لغة تشكيل البيئة المسرحية، وهي لغة تمتلك أبجديتها ومفرداتها وأدواتها وعناصرها وشعريتها الخاصة التي تتماهى إلى حد كبير مع “كيفية” كتابة النص المسرحي، مع اختلاف في مفردات هذه اللغة وقواعدها وصياغاتها التي تنتج عنها شعرية خاصة، فهي إذن كتابة بكل ما تعنيه الكتابة من معنى، كتابة لها أبجديتها الخاصة التي تحمل دلالاتها المنفتحة على مدلولات تحلق في فضاءات المعنى الذي يسعى إليه العرض.

فكانت عملية تشكيل بيئة العرض أشبه بكتابة في الفضاء المسرحي ضمن هذه المعطيات، وهذه الكتابة تمتلك مفردات وصياغات جمالية ناتجة عن وحدة المفردات وانسجامها، وتداخلها مع حركة الممثلين، لكشف الصراع بين الشخصيات، فضلاً عن المفردات التشكيلية المتمثلة في قطع أزياء وملابس الشخصيات، وقد صممتها ونفذتها زهرة حسن علي بطريقة مسرحية ونسق جامع للخامة والألوان والخطوط، إضافة إلى تعدد استخدامات الأبواب القديمة في المنظر، مع بعض التلوينات التشكيلية للضوء. كل ذلك حمل مدلولات محسوبة بدقة ومقننة ضمن اشتراطات وضوابط التعبير المسرحي ونظامه العلامي، وهو ما ضمن وصول الرسالة إلى المتلقي، وتحقيق مستوى تفاعلي كبير.

رسالة العرض تؤكد على معنى القيم، وأهمية البعد الوجداني الذي نتج عنه تفاعل المتلقي مع العرض، وتحقيق التواصل معه عبر كسر ما هو متوقع وإضفاء معنى على الأشياء

ومثلت عملية صناعة البيئة نصاً موازياً في هذا العرض، وكانت كتابة على كتابة، ذلك لأن بيئة العرض تهضم كل ما سبقها من ممكنات وتجليات وتصورات ورؤى، مثلما تهضم ما نحن عليه كمتلقين من تنوع واختلاف، وتغير وثبات، وخوف وقلق، وهواجس وأحلام، ورؤى وتصورات، وإن هذه التنويعات الذهنية والحسية والمادية للبيئة، هي التي أضاءت الطريق أمام محاولاتنا ومقترحاتنا للإجابة عن أسئلة العرض المتوالدة وصولاً إلى مقتربات المعنى والجوهر الذي يسعى إليه خطاب العرض.

من هنا جاءت سينوغرافيا العرض وهي تحمل أبجدياتها في تشكيل المعنى والهدف الذي يسعى النص ومن ثم العرض لتحقيقه، فكرة ومضموناً، تعززها حركة الممثلين المتعاضدة مع مفردات البيئة، التي كشفت عن مضامين الرسالة التي حملتها فكرة العرض الأساسية.

الرسالة التي قصدها القائمون على العرض، وسعوا إلى تحقيقها، أصابت هدفها بدقة وتركيز، وهي رسالة وفاء للموروث والبيئة والحكايات الشعبية، وهي في ذات الوقت رسالة وفاء إلى روح المؤلف المسرحي الراحل سالم الحتاوي، وهي رسائل نابعة من رصيدنا الشعبي وتستلهم من تراثنا الحضاري أنماطاً جديدة في التعبير والطرح، فـ”عرج السواحل” عرض مسرحي يروي حكاية الوفاء والإنتماء إلى البيئة والقيم.

وتؤكد رسالة العرض على معنى القيم، وأهمية البعد الوجداني الذي نتج عنه تفاعل المتلقي مع العرض، وتحقيق التواصل معه عبر كسر ما هو متوقع وإضفاء معنى على الأشياء، ربما لا تمتلكه في ذاتها، وإنما تمنحه لها طبيعة ارتباطها بالبنية الدرامية أو بالمتن الحكائي للنص، ضمن نظام العلاقات المنبثق من إمكانات المؤلف وقدرته على خلق خصوصية لتجربته وفرادة لرؤيته وتميزاً لصياغاته الجمالية، فضلاً عن إمكاناته في البناء والتنسيق والتركيب ضمن السياق الكلي العام لبنية الصراع في هذا النص، بترابط وحداته الدرامية.

وقد تميز الممثل عبدالله بن حيدر بالحضور الأدائي المتماهي صوتاً وجسداً مع فعل وردّ فعل شخصية “عتيق”، فيما امتلك الممثل سعيد سالم مرونة تعبيرية عبر تقنيات الصوت والإلقاء، كما استطاعت الممثلة هيفاء العلي أن تمسك بخيوط الشخصية وانفعالاتها المتوافقة مع الفعل المتصاعد للأحداث.

إن خصوصية هذا العرض تكمن في انتمائه إلى بيئته، فالأحداث والوقائع والموجودات المادية والحسية جاءت منسجمة في وحدة كلية، تعكس موقفاً إنسانياً وشعورياً من الحدث ومن الواقع، عبر لغة مبتكرة، اشتملت على صور حاملة لدلالات ذلك التداخل بين الرسائل التي حملها العرض.