صواريخ "خان" التركية ترسم خارطة ردع جديدة في جنوب شرق آسيا
تتقدّم تركيا بثبات كلاعب دفاعي صاعد يعيد رسم خريطة التحالفات العسكرية، خاصة في دول الجنوب العالمي. ومن خلال تقديم منظومات تسليح متطورة بأسعار تنافسية ونقل تكنولوجي فعلي، باتت أنقرة تمثل بديلًا إستراتيجيًا جذابًا عن الموردين التقليديين.
جاكرتا- يشهد جنوب شرق آسيا اليوم تحولات دفاعية عميقة في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، خاصة في بحر الصين الجنوبي، وإعادة استكشاف الدول لخيارات الردع الذكي بعيدا عن الاعتماد التقليدي على القوة الجوية أو البحرية.
وفي هذا السياق أدخلت إندونيسيا أبعادا غير مسبوقة عبر حصولها عام 2022 على صواريخ باليستية تنافسية من نوع “خان” تركية الصنع، لتصبح الدولة الأولى في المنطقة التي تكتسب هذا النوع من الأسلحة.
وصواريخ “خان” هي نسخة معدة للتصدير من طراز “بورا” التركي، ويبلغ أقصى مداها 280 كيلومترًا. ويزن الصاروخ 2500 كيلوغرام، ويأتي محمّلًا برأس حربي شديد الانفجار أو تجزئة بوزن نحو 470 كيلوغرامًا.
وتعمل منظومة الصاروخ عبر نظام ملاحة مختلط يجمع بين النظام العالمي لتحديد المواقع (جي بي أس) والنظام الروسي (غلوناس)، بالإضافة إلى التوجيه بالقصور الذاتي، ما يجعل دقته في دائرة الخطأ بنسبة أقل من عشرة أمتار.
إدخال الصواريخ الباليستية "خان" إلى جنوب شرق آسيا يمثّل نقطة تحول حقيقية في نظرة المنطقة لأدوات الردع التقليدية
ويعتمد نظام الإطلاق على شاحنات تكتيكية متنقلة رباعية المحاور 8×8، ما يتيح التحول السريع بين وضعية الحركة والإطلاق، للمزيد من قدرة البقاء ضد هجمات الرد المضاد.
واختيرت جزيرة كاليمانتان الشرقية كموقع أولي لنشر المنظومة -تحديدا بالقرب من العاصمة الإدارية الجديدة نوسانتارا- وهو موقع ذكي زمنيًا وإستراتيجيًا، يضمن تغطية كافية لمناطق بحر الصين الجنوبي، ويقلل من خطر الإيراد المحتمل للمواقع المدنية أو الهجمات المباشرة.
ويقول الباحث عبدالله أكبر رفسنجاني في تقرير نشرته مجلة “مودرن بوليسي” إن إدخال صواريخ “خان” يثبّت تحولا دفاعيا واعيا في سياسة إندونيسيا؛ من الاعتماد التقليدي على القوات الجوية والسفن إلى اعتماد الردع الأرضي الدقيق كأداة فعالة للردع.
ويأتي هذا التوجيه ضمن إستراتيجية جديدة تعتمد على التوزّع التكنولوجي والتقني، بعيدا عن الاعتماد على أسلحة الموردين التقليديين (الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا).
وقد أتاح التعاون العسكري مع تركيا ليس فقط تزويد منظومة “خان” بل أيضًا نقل التكنولوجيا والتدريب والعلاقات المؤسسية من خلال اتفاقيات تتيح المشاركة في التصنيع.
وإضافة إلى صواريخ “خان” تشمل العلاقات الدفاعية المشتركة بين إندونيسيا وتركيا تطوير دبابات “كابلان إم تي/هاريمو”، ولجنة تطوير الطائرات المقاتلة “كآن” (طائرة الجيل الخامس) بصفقة ضخمة قُدّرت قيمتها بنحو عشرة مليارات دولار، إلى جانب مصنع مشترك لإنتاج الطائرات دون طيار من طراز “بايكار” في إندونيسيا.
وفي الوقت نفسه لا يمكن فصل هذه التحولات عن توجه تركيا إلى تعزيز حضورها الدفاعي في الجنوب العالمي عبر عقود تصدير ضخمة، تشمل طائرات دون طيار وصواريخ مضادة للسفن وبوارج بحرية، وغيرها، بأسعار تنافسية ونقل تقني ملموس.
الدول المجاورة

شكلت حقيقة امتلاك إندونيسيا صواريخ “خان” نقطة تحوّل نوعية في طبيعة التفاعلات العسكرية داخل جنوب شرق آسيا، وأدخلت معادلات جديدة إلى موازين القوى الإقليمية.
وعلى الرغم من أن هذه الصواريخ لا تُوجَّه رسميًا نحو دول الجوار، مثل ماليزيا وسنغافورة، فإن مداها الذي يصل إلى 280 كيلومترًا يضع تلك الدول عمليًا ضمن نطاق التهديد المحتمل، حتى وإن لم يكن الهدف مباشرًا.
ويفرض هذا الواقع على الدول المجاورة استجابات إستراتيجية مدروسة، لا تقوم بالضرورة على التصعيد، بل على تعزيز مقومات الدفاع والردع ضمن أطر محسوبة.
وفي الحالة الماليزية يُتوقّع أن تتبنى كوالالمبور مقاربة حذرة وواقعية، تركز على تعزيز الدفاعات الجوية وتطوير أدوات الإنذار المبكر، مع الدفع نحو المزيد من التنسيق الدفاعي الإقليمي عبر منصات رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
ولن تسعى ماليزيا على الأرجح إلى الدخول في سباق تسلّح مفتوح، بل ستفضّل الحفاظ على التوازن من خلال التحصين الدفاعي وزيادة الشفافية المتبادلة في الخطط العسكرية، بما يقلل من فرص سوء الفهم أو التصعيد العرضي.
أما سنغافورة، التي تمتلك بنية دفاع جوي متقدمة تضم أنظمة مثل “أستر 30″ (الفرنسي – الإيطالي)، و”سبايدر” (الإسرائيلي)، إضافة إلى رادار “غرين باين”، فإنها تنظر إلى امتلاك إندونيسيا صواريخ باليستية تكتيكية كعامل يستوجب ترسيخ العمق الدفاعي وتعزيز القدرة على التصدي لمختلف أنواع التهديدات.
وفي إطار إستراتيجيتها التقليدية القائمة على التفوق النوعي، قد تدفعها هذه التطورات إلى توسيع قدراتها باتجاه امتلاك خيارات ضاربة استباقية، خاصة في سيناريوهات التصعيد القصوى، وإن كانت تفضل تجنب أي مسار قد يخل بتوازن الردع القائم داخل آسيان.
ولا يعكس هذا التحول فقط استجابة آنية لحدث تقني أو تسليحي، بل يُشير إلى تغير أعمق في النظرة الإقليمية إلى مفاهيم الردع والدفاع.
وتجد دول جنوب شرق آسيا، التي تجنبت تاريخيًا امتلاك صواريخ أرض – أرض الباليستية لأسباب تتعلق بالتوازن السياسي والخوف من التصعيد، نفسها اليوم أمام واقع جديد يُعيد تعريف ما هو “مشروع” و”مسموح به” ضمن أطر الأمن الإقليمي.
وباتت الصواريخ التكتيكية، التي كانت تُعدّ سابقًا من المحرّمات، تُفهم بشكل متزايد كجزء من أدوات السيادة الدفاعية، لاسيما حين تُستخدم للردع في سياقات جيوسياسية معقّدة.
وبهذا المعنى تمثل خطوة إندونيسيا تَخليًا تدريجيًا عن القيود غير المكتوبة التي حكمت سباق التسلح الإقليمي لعقود، وانفتاحًا على نمط جديد من الموازنة العسكرية، أكثر جرأة، لكنه أيضًا أكثر حساسية للتفاعلات الدقيقة بين الأمن والدبلوماسية.
إنفاق عسكري إقليمي
وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، سجلت منطقة آسيان زيادة ملحوظة في الإنفاق العسكري خلال العقد الأخير، وصلت إلى نحو 47.8 مليار دولار في 2023.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام لا ترقى إلى سباق تسلح شامل كالذي رافق الحرب الباردة، فإن نموها يؤكّد أن دول المنطقة بدأت تتعامل مع سياقات الأمن بجدية أكبر.
وتركز غالبية الإنفاق على التحديث الجوي والبحري وصواريخ الدفاع، مع تصدّر سنغافورة وإنفاق موازٍ لإندونيسيا في الداخل بدءًا من صياغة القوة البحرية إلى استقطاب التكنولوجيا العسكرية الأجنبية.
ورغم أن آسيان وقّعت على معاهدة خلو جنوب شرق آسيا من الأسلحة النووية (منطقة آمنة من الأسلحة النووية، 1995)، التي تمنع امتلاك الأسلحة النووية دون تحكّم في الأسلحة التقليدية مثل الصواريخ الباليستية، إلا أن دخول إندونيسيا مسار امتلاكها يطرح تساؤلات حول الحاجة إلى رؤى مشتركة لضبط التسلح الموجّه (كالردع التكتيكي) ضمن التنظيم الإقليمي.
وتستدعي هذه الحال تفكيرا مؤسسيا أوسع داخل آسيان، لتجنب تفكّك وحدة المجموعة عبر السباق التسلحي السلبي أو تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي.
شراكة لا يُستهان بها

تعزّز صفقة “خان” العلاقات الإستراتيجية بين أنقرة وجاكرتا، ما يعكس تحولا في الحقل الدفاعي بعيدا عن التحالف التقليدي الغربي، صوب الأفق الإستراتيجي الإسلامي والجنوب العالمي.
وتم توقيع مذكرات تفاهم واسعة عند زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى إندونيسيا، تشمل إنتاج طائرات دون طيار، وتصنيعا محليا للدبابات والطائرات، وتوسّعا في استثمارات البنية التحتية المستقبلية مرتبطا بالعاصمة الإدارية الجديدة، إلى جانب مواقف دبلوماسية مشتركة في النزاعات الإقليمية.
هذا التحول التركي لا يقتصر على زاوية التصنيع، بل يشمل بناء تحالفات دبلوماسية وإستراتيجية جديدة تهدف إلى تقليل التبعية الغربية، وتعزيز صورة تركيا كمصدر شامل للدفاع والأسلحة المستقبلية.
ولا يشير إدخال منظومة الصواريخ الباليستية “خان” إلى بداية سباق تسلح شامل في جنوب شرق آسيا، لكنّه بلا شك يمثّل نقطة تحول حقيقية في نظرة المنطقة لأدوات الردع التقليدية. فهو خطوة رمزية تعيد تشكيل معادلات القوة، وتضع إندونيسيا في خانة جديدة كفاعل دفاعي محلي فعّال، وتفتح أبوابًا جديدة للأدوار التركية عبر التعاون الإستراتيجي الواسع.
وتُعدّ تركيا اليوم لاعبا متناميا في سوق الدفاع العالمية، خاصة في دول الجنوب العالمي، وقد نجحت في التغلغل تدريجيًا ضمن مناطق كانت سابقًا محتكرة دوليًا. فقد بلغت قيمة صادراتها الدفاعية عام 2024 نحو 7.1 مليار دولار، بزيادة ملحوظة عن العام السابق.
ولا يقتصر نجاح تركيا على التكنولوجيا، بل يشمل التمكين الصناعي والمالي. ففي عام 2025 دشّنت الدولة برنامجًا تصل قيمته إلى 262 مليون دولار لدعم تمويل الشركات الدفاعية داخليًا، ما عبّد الطريق نحو ابتكارات محلية ومنتجات تصديرية قوّية، دون أن تعتمد على التمويل الأجنبي التقليدي.
وتعبر كل هذه الجهود عن إستراتيجية تركية واضحة: أن تصبح بديلاً عمليًا وفعّالًا في سوق الدفاع الدولية عبر ما تقدمه من تقنيات متطورة، وأسعار تنافسية، ونقل تكنولوجي حقيقي إلى الدول الشريكة التي تسعى إلى تعزيز قدراتها دون أن تكون رهينة للتحالفات التقليدية.