شاعر يكتب ملحمة الفلسطيني من حدود الذاكرة إلى ضمير العالم
الشعرية الفلسطينية لها خصوصيتها التي تتجاوز الأسلوب إلى نحت خطاب إنساني عميق، خطاب يواجه الاحتلال، ويعيد تشكيل الضمير ويرفع القصيدة في وجه آلات الحرب والتدمير. لكل شاعر فلسطيني حكايته، والشاعر الفلسطيني - الأردني علي العامري من أولئك الشعراء الذين اقتلعوا عنوة من أرضهم، فيما ما تزال تسكنه كما نكتشف معه في هذا الحوار.
يحمل علي العامري في ذاته جغرافية شكّلها المنفى والترحال. ولد في قرية وقاص بالأردن لعائلة هجّرت من بيسان خلال نكبة عام 1948، ونشأ في وادي الأردن، على مفترق طرق الحدود والانقسامات التاريخية.
نسأله كيف شكّل هذا المنفى حياته وكتاباته؟ ليجيبنا: “المنفى أرض رمليّة، يذكّرني دائما بأنني أقف على جغرافيا متحركة في زمن زلزاليّ. ومع أنّ هذا الكلام مجازيّ، إلّا أنني، في الواقع، ولدت في قرية وقاص وعشت طفولتي في قرية القليعات، وكلاهما في وادي الأردن الذي يشكّل حزاما زلزاليّا بالفعل، ضمن صدع البحر الميّت. وهنا يتطابق المجاز مع الواقع تماما، في صيغة بليغة.”
ملحمة الفلسطيني
يسمي العامري هذا المنفى بـ”المنفى التهجيريّ” إذ لم يختره بإرادته، كما لم يختر 950 ألف فلسطينيّ هذا المصير القسري، إثر نكبة العام 1948، ممن هُجّروا بانتزاعهم من بيوتهم وأرض أجدادهم. ومنذ تلك اللحظة المأساوية تشكّل مصطلح “الشتات الفلسطينيّ.”
ويتابع: “المنفى بهذا المعنى الاقتلاعي، يتحوّل إلى علامة جوّانية، يشعرني بأنني أعيش في مكان مؤقت وفي زمن مؤقت. هذا الإحساس يولّد ألما صامتا يتسرب داخل الذات. لكن من جانب آخر، فإنّ حياتي في المنفى تشير دائما إلى فردوسي المحتل، وليس المفقود. وبالتالي يحفر المنفى عميقا في الروح وفي اللغة معا، إذ يتجاور الألم والأمل في سبيكة واحدة. الحياة في المنفى هي وجودٌ معلّق، رجراج، ومتأرجح. كلّ هذا ينعكس في ماء الكتابة تلقائيا، فاللغة الشعرية تتدفق من هذه الروح المعلّقة في الزمن وفي الجغرافيا.”
يتحدث الشاعر الفلسطيني عن وادي الأردن، حيث نشأ، يقول: “وادي الأردن يعني لي العتبة الأولى للحواس، إذ عشت طفولة بريّة في قرية القليعات الواقعة على الحدود مع شمال فلسطين. قريتي جارة نهر الأردن، وشاهدة على التهجير، وفضاء اللعب، والمسرح البريّ المفتوح للكلمات الأولى والألوان الأولى، وهي خزانة الذكريات الحلوة والمرّة. حين كنت في الخامسة من عمري، وقعت حرب يونيو 1967، إذ نمنا في مغارة في الجبل، قبل أن تنزح عائلتي إلى بلدة الصريح القريبة من مدينة إربد، شمال الأردن.”
ويتابع: “درست المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ولا تزال مشاهد من تلك الحرب محفورة في ذاكرتي، حيث كانت طائرات العدو الحربية تمزق سماء القرية على ارتفاع منخفض، في طريقها لقصف مطارات الأردن ومواقع أخرى. كنّا نهرع راكضين إلى ملجأ عائلي صغير كان أبي حفره بالقرب من صخرة كبيرة أمام بيتنا. وكان جدّي يمتطي حصانه ويتفقد الحقول، ويعود لنا بالخضراوات.”
يذكر العامري كيف قصف الاحتلال الإسرائيلي بيتهم بقذيفة مدفعيّة لكنها سقطت قبل البيت بأمتار قليلة، وانفجرت محدثة حفرة واسعة وعميقة، صارت لاحقا تتجمع فيها مياه الأمطار. وما تزال مشاهد الحرب حاضرة في ذاكرته، مع مشاهد الفدائيين بملابسهم المرقّطة وأسلحة الكلاشنكوف، ومشاهد الدبابات الصهيونية التي غنمها الجيش الأردني خلال معركة الكرامة في 21 مارس 1968، التي تحقق فيها النصر المشترك للفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني.
ويضيف: “من جانب آخر، ما أزال أتذكّر رسائل الحب التي كنت أدفنها تحت شجيرة سدر بريّة في الجبل. في قريتي، كانت البراري معلمتي الأولى، كنت مع إخوتي نمشي إلى نهر الأردن ونسبح في المناطق الضحلة، كما لو أننا تعمّدنا في المياه المقدسة مثل المسيح الفلسطيني، وحملنا صليب الشّتات. في تلك القرية، كنّا نصنع ألعابنا بأيدينا من بقايا الأسلاك والعلب الفارغة، ونصنع الطيّارات الورقية ونتبارى في إطلاقها لتحلّق في سماء القرية، ولكن لاحقا جاءت طائرات الاحتلال الحربيّة لتخدش سماء طفولتنا.”
كثيرة هي ذكريات الطفولة التي هي جزء من ذاكرة العامري الشخصية وذاكرة إخوته وكلّ أطفال القرية، مثلما هي جزء من ذاكرة المكان. لقد كانوا يشاهدون من بيتهم وميض الرصاص والقنابل المضيئة، ويسمعون صوت الانفجارات خلال عمليات ينفّذها فدائيون فلسطينيون يهبطون من وادي الطيبة بالأردن إلى غرب نهر الأردن.
يواصل: “في وادي الأردن تعرّفت على كثير من النباتات والزهور والأشجار والحيوانات والطيور البريّة. كنّا نسكن في بيت طينيّ مسقوف بالقصّيب وعوارض خشبية فوقها طبقة من الإسمنت. ولم نكن نعرف الكهرباء، آنذاك، فقد كنّا نقرأ على ضوء القنديل. كانت قريتي شاهدة كتاباتي الطفولية ورسوماتي الأولى. وما تزال طفولتي حاضرة في قصائدي، لأنها خزّان الصور والذكريات والحكايات الفلسطينية التي كان يسردها جّدي وجدّتي وأبي وأمي. في طفولتي، كانت جدّتي ساردة للحكايات الشعبية الخرافيّة، التي عرفت لاحقا أنها تعود إلى جذور أسطورية، فالحكاية تهاجر شفهيّا عبر الأمكنة والأزمنة لتغدو خزانة الخيال المفتوحة.”
ترجمت قصائد علي العامري إلى اثنتي عشرة لغة حول العالم، حول أهمية الترجمة وإضافتها لرسالته يقول: “الترجمة لسان يجمع كلّ اللغات، تشكّل جسورا ثقافية متعددة الاتجاهات بين الشعوب. ومن المعروف أن للترجمة دورا كبيرا في بناء الحضارات، فهي التي مكّنت العرب من حفظ الإرث اليوناني ونقله إلى أوروبا وعموم الغرب، مع الإنجازات الجديدة التي أسهم بها الأدباء والعلماء والفلاسفة العرب والمسلمون. كان المترجمون، أيام المأمون في العصر العباسيّ، يكافأون بوزن كتبهم ذهبا. وهذه إشارة بليغة على الاهتمام بالترجمة، لما لها من دور عظيم في النهضة الإنسانية.”
الشعر دائما يعيد تشغيل طاقة الأمل ويبني حوارا عابرا للحدود في مواجهة القتلة والصواريخ العابرة للقارات
أما على صعيد تجربته الشعرية، فقد صدر كتابه “خيط مسحور” بالإسبانية عن بيت الشعر في كوستاريكا، كما ترجمت له قصائد عديدة إلى 12 لغة. وبمبادرة من الشاعرة ألكساندرا كريتي، تواصل الشاعرة والمترجمة التونسية أروى بن ضياء ترجمة كتابه “فلسطينياذا” إلى الفرنسية. وهذا يعني، كما يقول، أن قصيدته تهاجر إلى قرّاء آخرين، إلى ثقافات أخرى، وإلى ألسنة أخرى. وبالتالي رسالتي الجمالية والفكرية والوطنية والإنسانية تعبر جسر الترجمة لتغدو عابرة للحدود.
ويضيف: “في هذا الوصول نوع من الحوار من خلال النصّ الشّعري، لا يتحقق من دون الترجمة التي تسهم في تعميم الجمال والقيم الإنسانية القائمة على الأخوّة العالمية، وليس على عولمة الهيمنة. الترجمة تحقق هجرة الذات إلى الآخر، وتعزز التفاهم والتعاون والمحبة. الشعر يوسّع الوجود، والترجمة تمكننا من قراءة الآخر، وتمكننا من الترحال عبر الزمن والجغرافيا، وتجعلنا قادرين على مشاركة الجماليات والأفكار والتجارب مع آخرين.”
“فلسطينياذا” آخر الأعمال الشعرية التي نشرت للعامري، وهو شبيه بالنبوءة حول أهوال ما حدث لاحقا في غزة، يلفت الشاعر إلى أن كتابه هذا صدر فعليا في الرابع من أكتوبر 2023، أي قبل أحداث السابع من أكتوبر في غزّة بثلاثة أيام. وكعادة الناشرين عندما يصدرون كتبا في نهاية العام، يضع الناشر العام 2024 على طبعة هذا الكتاب، وكان أول حفل توقيع للكتاب في شهر نوفمبر 2023، أثناء الدورة 42 من معرض الشارقة الدولي للكتاب. وفاز “فلسطينياذا” الذي يجمع في عنوانه اسم فلسطين واسم إلياذة هوميروس، بجائزة فلسطين العالمية للآداب التي أقيمت في بغداد نهاية العام 2024.
يتضمّن الكتاب الذي أهداه الشاعر “إلى جدّي وأبي وأمّي الذين علّموني حكمة الأشجار”، قصيدة واحدة، متعددة الأصوات والإيقاعات، مع توظيف أساليب الحوار والسرد والدراما والمرجعيات التراثية الشعبية والتاريخية والأسطورية، من بينها عناصر من ملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسة”، مثل انتظار بينيلوبي لعودة عوليس، والحصان الخشبي، وتضحيات أبناء طروادة.
يتابع العامري: “عملت على تعمير النصّ بالأبعاد المكانيّة والطبيعية والرّوحية، من خلال أسماء القرى والمدن الفلسطينية والزهور البرّية والنباتات والأشجار والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية ومزارات الصوفيين. كما يتضمن النصّ مرجعيات تعود إلى الحضارة الكباريّة نسبة لمغارة كبارة في جنوب مدينة حيفا الفلسطينية، والحضارة النّطوفية نسبة لوادي النّطوف الواقع شمال غربي القدس في فلسطين، والحضارة الكنعانية، فضلا عن المراحل التاريخية اللاحقة.”
تلتقي في هذه القصيدة – الكتاب ذاكرة المكان الأول، فلسطين، مع ذاكرة أطلس التهجير والشتات، وذاكرة الجدّ والجدّة والأب والأم وذاكرة الابن والحفيد، وذاكرة النكبة والنكسة، وذاكرة الحرب، مثلما تلتقي ذاكرة نهر الأردن بذاكرة الفدائي، وذاكرة مفتاح البيت، وذاكرة الطفولة وقرية القليعات، وذاكرة معركة الكرامة، وذاكرة الشعر الفلسطيني، وذاكرة الثورة والانتفاضة والمقاومة، وذاكرة الحجر الفلسطيني.
نسأل العامري هل كتاب “فلسطينياذا” في الأساس صرخة أمل أم ذكرى أم ألم؟ فيجيبنا: “يجمع الكتاب كل هذه العناصر، إذ يلتقي الألم والأمل، وهو يجسّد جماليات طبيعة فلسطين، وعمقها التاريخي وحضاراتها التي تعود لآلاف السنين، وعلاقة الفلسطيني بأرضه وبيته وحقوقه على أرض أجداده. كما يبيّن ارتباط أبناء الشعب الفلسطيني بحبّ الحياة والجمال من جهة، واستعدادهم للتضحية من أجل الوطن، ومقاومتهم للاحتلال الصهيوني، من جهة أخرى.”
ويؤكد أن كتاب “فلسطينياذا” يشكّل سردية شعرية مضادة لمقولة الاحتلال التلفيقية القائمة على الخرافات والتزوير والتحريف والأكاذيب. وكان الأديب والناقد الدكتور إبراهيم السعافين كتب في مقدمة الكتاب: “علي العامري في هذا الكتاب الشّعري الذي اختار له عنوانا ذا صلة وثيقة بالملحمة، يقدّم الملحمة الفلسطينيّة الحديثة في تشبّث أبناء فلسطين بهويّتهم وأرضهم، سواء أكان ذلك على الأرض الفلسطينيّة أم في مواطن الشتّات.”
الشعر لأجل العدالة
"فلسطينياذا" آخر الأعمال الشعرية التي نشرت للعامري، وهو شبيه بالنبوءة حول أهوال ما حدث لاحقا في غزة
علي العامري شاعر وصحفي وفنان أيضا. حول كيفية موازنته بين هذه الأدوار المختلفة، يقول: “النهار للوظيفة، والليل لي. كما أنّ هذه الحقول الثلاثة تتلاقى في كثير من جوانبها، ولاسيّما أنّ العلاقة بين الشعر والرّسم عميقة، فكلاهما ينبع من معين إبداعيّ واحد.”
أما إذا كان الفن ما يزال قادرا على تغيير المجتمع ورفع صوته ضد الظلم، فيقول “لقد كان للإبداع الأدبي والفني بكل أشكاله دور أساسيّ في سيرة البشرية، ففي البدء كان الفن ‘تعويذة‘ ضد المجاهيل من الكائنات والظواهر التي كان يراها الإنسان غامضة. وقد تواصل هذا الدور بمعان مختلفة. ويمكن النظر إلى الكتابة بوصفها ‘عشبة الأبد‘، وما رحلة جلجامش في الأسطورة السومريّة، إلى أعماق البحار، سوى استعارة عن رحلة جوّانية في أعماق الإنسان، حيث يتبادل الخلود والفناء رسائلهما بوصفهما توأمين.”
ويتابع: “كلتا الرحلتين مغامرة وسط أخطار محدقة في العتمتين العميقتين، عتمة المياه، وعتمة النفس. في هذا المعنى، يبدو لي أن الكتابة هي كلمة السّر للجمال العميق، وكلمة السّر لمقاومة البشاعة، وكلمة السّر لمقاومة الظلم والهيمنة والاحتلال والقهر. في البدء كانت ‘لا‘، وكان المنفى عقابا. وإذا رجعنا إلى الألواح الطينية والحجرية في الحضارات القديمة، وجدنا البقاء للكلمة، إن كانت مرسومة أو منقوشة أو محفورة. وطوال المسيرة الإنسانية كان الإبداع خزّانا للأسئلة والأحلام، ومولّدا للوعيّ ودافعا للتغيير والاحتجاج على الظلم.”
يتحدث الشاعر عن جمع ما بعثره التاريخ، معتبرا أن التاريخ الحقيقي ما يزال مطويّا في النسيان أو التعتيم أو التجاهل، لأنّ “المنتصرين” هم الذين كتبوا التاريخ الرسمي، بينما الحقيقة تعيش في شهادات الضحايا. لذلك تقتضي العدالة رد الاعتبار للمضطهدين والمظلومين، وأن نجعل أصواتهم مسموعة، ونجعل آلامهم مرئية تحت ضوء الشمس.
أما الرسالة التي يود توجيهها لشعراء اليوم الشباب، فيقول العامري: “رسالتي دائما لي وللشعراء تتمثل في مواصلة القراءة، والاطلاع على حساسيات شعرية من مختلف دول العالم، والوقوف إلى جانب المظلومين والمهمّشين.”
نسأله هل حلمك الأكبر هو العودة إلى وطنك أم خلق شعور جديد بالانتماء إليه؟ فيجيبنا: “العودة إلى فلسطين هي حلمي الأكبر، مثلما هو حلم ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون منفى الشتات. لا شيء يضاهي معنى الحرية.”
وحول ما يمكن للشعر أن يحققه في مواجهة الحرب والمنفى يقول الشاعر: “الشعر يشكّل خريطة الضمير الحيّ في العالم، وهو البوصلة الإنسانية، وكلمة السّر لحياة يسودها العدل والرحمة والحبّ والجمال والتعاون والمشاركة. والشعر معجم الأمل، وصوت من لا صوت لهم.”
ويضيف: “في الحرب، يذكّرنا الشعر بأن لا نقع في اليأس. وفي المنفى يمنحنا صبرا مضيئا، ويجعلنا نتحمّل عبء المسافة والانتظار. والشعر دائما يعيد تشغيل طاقة الأمل، ويبني حوارا عابرا للحدود، في مواجهة الصواريخ العابرة للقارات. وخلال جرائم الإبادة الجماعية واستخدام التجويع ضد الشعب الفلسطيني في غزّة منذ سنتين كاملتين، رأينا كيف تحرّك ضمير الشعوب في كل أرجاء العالم، في حركة تضامن عظيمة مع فلسطين.”
ويتابع: “استخدم الناس قصائد ورسومات ومشاهد تصويرية ورموزا وملصقات وموسيقى وأغاني في الاحتجاج على الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني وبمساعدة من دول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي تمارس ما يمكن أن أسمّيه الهلوسة الاستعمارية. ورأينا كيف يسلّط الضوء على الشعر الفلسطيني عموما، وفي غزة خصوصا، وقد صدرت العديد من المختارات الشعرية الفلسطينية في مختلف لغات العالم. سيبقى الشعر نبض الإنسانية في كلّ الأزمنة.”