"سحر الشرق وغوايته".. هل ساهم الفن الاستشراقي في تشويه صورة المدينة العربية
عمان - كتاب «سحر الشرق وغوايته: امتدادات صورة المدينة العربية في الفن الاستشراقي، من دولاكروا إلى بول كلي» للباحث الجمالي المغربي عزالدين بوركة، هو دراسة موسعة تستجلي حضور المدينة العربية في التمثلات التشكيلية الاستشراقية، من الرومانسية إلى التجريد، عبر أسماء كبرى في تاريخ الفن الغربي مثل أوجين دولاكروا وإنغر وديفيد روبرتس… مرورا بعثمان حمدي بك، ولودفيغ دويْتش، وإتيان ديني (الذي اعتنق الإسلام)، وموريس بومبار، وصولا إلى هنري ماتيس وبول كلي وفاسيلي كاندينسكي… وغيرهم.
لا يقتصر الكتاب، الصادر حديثا عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع بعمان والذي جاء في أكثر من مئتي صفحة متوسطة الحجم، على التتبع التاريخي لمسارات الفن الاستشراقي، بل يقترح قراءة نقدية جديدة لعلاقة الغرب بالشرق من خلال تمثيلات المدينة العربية في اللوحة التشكيلية. وهو بذلك يسائل البعد الحضري والجمالي، ويقف عند إشكالية تشويه الصورة أو تثمينها في سياق جدلية الشرق – الغرب، مستحضرًا أثر الكولونيالية ووعيها المتخيّل، ومشيرا إلى ما خلّفته من وثائق بصرية لا تزال مثار جدل حتى اليوم.
وقد صاغ مقدمة الكتاب الفنان التشكيلي والكاتب الأردني -الفلسطيني محمد العامري تحت عنوان “الاستشراق والوعي المغاير”، معتبرًا أن هذا العمل يشكل إضافة نوعية في إعادة النظر في الإرث البصري الاستشراقي الذي قدّم صورة مزدوجة عن الشرق؛ بين التوثيق الأمين والمبالغة الخيالية.
وأكد العامري أن الشرق، بما فيه من عمارة وأسواق ومساجد وحياة يومية، كان بمثابة مرآة غير محايدة في أعين المستشرقين، لكنه في الآن نفسه منح الفن الغربي طاقة لونية وجمالية جديدة، كما هو الحال مع تجربة بول كلي في تونس.
وأضاف في تقديمه أنّ هذا الكتاب “يشكّل مساحة مهمّة في مسألة اختبار النظرة الاستشراقية لصيرورة المدينة العربية في سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وصولًا إلى الأنماط المعمارية التي سادت في حقب مبكّرة.”
ويضيف العامري أنّ “الكتاب يُعَدّ صورة من صور إعادة النظر في ما خلّفه المستشرقون من رسومات وتفاصيل عن الحياة العربية، وتحديدًا عن المدينة العربية، بوصف الاستشراق في الفن التشكيلي من أكثر الظواهر الثقافية والتاريخية والسياسية مدعاة للتأمل وإعادة القراءة بصورة جديدة. ورغم أنها ظاهرة قديمة، فإنها متجددة في طروحاتها التي لم تنتهِ جدليتها بين الشرق والغرب، كونها احتكاكًا بين حضارتين مختلفتين.”
ويتابع “هي أيضًا مساحة عريضة لتسليط الضوء على الشخصية الشرقية وملامح الحضارة الإسلامية والحياة اليومية، وصولًا إلى صورة المرأة والرجل، من ملبس وعادات وتقاليد ومهن. ولعلّ اختبار ظاهرة الاستشراق في الفن يقودنا إلى بروز عدّة إشكاليات تتمثل في أشكال تناول المستشرق للبيئة الشرقية وكيفية تعامله معها فنيًا، وأسلوب نقلها إلى بيئته، وما تركه من أدلجة للفن التشكيلي عبر توظيف نفسي متعدّد.”
ينقسم الكتاب إلى مباحث متدرجة، من تحولات صورة المدينة العربية في الفن الاستشراقي، إلى المجالات الحضرية التي شكّلت موضوعًا للرسامين (المسجد، السوق، الحمامات، القصور، المقاهي…)، وصولًا إلى قراءة بانورامية تكشف التداخل بين الواقعي والمتخيل.
ويختم المؤلف بدراسة حول إشكالية الهوية وتمثيل الذات في عيون الآخر الغربي، واضعًا سؤالًا محوريًا: إلى أيّ حد أسهم الاستشراق الفني في تشويه صورة المدينة العربية أو إبراز جماليّاتها؟
وقد جاء في مقدمة الكتابة، كما يكتب بوركة، أنّ هدف هذه الدراسة هو “تبيّن البعد الحضري والجمالي في الاستشراق الفني المقترن أساسا بتصوير المدن العربية. من خلال تحليل عدد من الأعمال الفنية التي ركزت على البيئة الحضرية العربية، كما نناقش كيف تمت إعادة تشكيل المدينة العربية بصريًا في أذهان الفنانين الغربيين، وكيف ساهمت هذه الأعمال في تكوين تصور معين عن الشرق والعرب. وكيف أثرت زيارات فناني الاستشراق للمدن العربية – خاصة – على مدونتهم وأساليبهم.”
ويبين أن “العديد من الرسامين تطورت رؤاهم واشتغالاتهم التصويرية الصباغية وتحديد ألوانهم بعد رحلتهم إلى المغرب والشرق العربيين. فحتى مقامات الألوان لديهم باتت دافئة أكثر، وصارت الدائرة اللونية محصورة بشكل عامل في ألوان محددة مثل الأحمر والأصفر والبني وجميع تدرجاتها المختلفة. وتتمثل الفكرة التي اتحدوا حولها في تصوير المناخ والحرارة والضوء لهذه الأراضي والمدن الغنية والمضاءة بشكل أفضل. بالإضافة إلى ذلك، سنتناول كيفية تأثير هذه الصور على الهوية العربية، سواء عبر تعزيزها أو تشويهها.”
ويضيف في موضع آخر”المدينة ليست مجرد مساحة جغرافية في هذه الأعمال، بل هي مرآة تعكس الثقافة والتاريخ والتقاليد. (….) ومن خلال استكشاف هذه المدن، مثل القاهرة، بغداد، دمشق، وفاس، وطنجة، ومراكش، وتونس، والجزائر، ووهران، ومكناس… إلخ؛ يُظهر الفنانون الغربيون عمق الجمالية العربية في بيئتها الحضرية، غير أنهم غالبا ما يشتغلون عليها تصويريا مضيفين ملامح تسعى لاستمالة رغبات وأحلام واستهامات الفرد الغربي. فالتصور الشائع الذي يتردد في العديد من الأعمال هو أن المدن العربية تحتوي على طبقات من التاريخ والحضارة، ما يعطيها هالة خاصة من الغموض والجاذبية.”
يمثل هذا الإصدار، بما يحمله من تحليل بصري ونقد ثقافي، إضافة نوعية إلى المكتبة العربية في مجال دراسات الفن التشكيلي والاستشراق، خصوصًا وأنه يستند إلى أرشيف غني من الصور والوثائق الفنية، ليقدّم قراءة متوازنة تعيد مساءلة الخطاب الغربي حول الشرق، وتفتح أفقًا لتفكير جديد في العلاقة بين الفن، المدينة، والهوية الحضارية.
هذا ويُعَدّ الكتاب امتدادًا لمشروع نقدي أوسع يواصل فيه عزالدين بوركة البحث في فن الاستشراق في الشرق والمغرب، بعد أن افتتحه بإصدار الكتاب السابق “نوافذ هنري ماتيس، المغرب شرقًا بين الألفة والغرابة” (عن دار خطوط وظلال، 2024).