رشوة العصير تجر عنصري شرطة في العراق إلى السجن والطرد
بغداد - فرضت وزارة الداخلية العراقية اليوم الاثنين عقوبات صارمة وغير مسبوقة شملت الطرد والحبس وغرامات مالية بحق أفراد دورية شرطة، وذلك بعد ثبوت تورطهم في قضية فساد هزّت الرأي العام في البلاد حيث قبلوا صندوق عصير كرشوة من سائق سيارة في أحد الشوارع.
وتأتي هذه الخطوة في إطار حملة حكومية واسعة النطاق لمكافحة الفساد، والتي يقودها رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني.
وذكرت وزارة الداخلية، في بيان صحافي الاثنين أن محكمة قوى الأمن الداخلي الأولى أصدرت أحكاما بحق أحد عناصر دورية الشرطة بالحبس الشديد لمدة سنتين وغرامة مالية قدرها مليون ومئة ألف دينار عراقي لقيامه بأخذ رشوة صندوق عصير من مركبة نقل أثناء أداء عمل من أعمال وظيفته وطرده من الخدمة كعقوبة تبعية بعد اكتساب الحكم الدرجة القطعية واعتبار جريمته مخلة بالشرف.
وهذه الواقعة، التي تبدو بسيطة في تفاصيلها، تحوّلت إلى رمز للصراع ضد الفساد المنتشر في مفاصل الدولة.
وعاقبت المحكمة فردا ثانيا من الدورية بالحبس البسيط لمدة ستة أشهر، لتقاعسه عن منع الجريمة وعدم إبلاغ الجهات المختصة عنها قبل انتشارها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وطبقا للوزارة، تم الحكم على مدان ثان كان ضمن الدورية بالحبس البسيط لمدة ستة أشهر، لتغاضيه عن ارتكاب جريمة كان بوسعه منعها ولعدم الإخبار عنها قبل تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويؤكد هذا القرار على أن المسؤولية لا تقتصر على مرتكب الجريمة فحسب، بل تشمل كل من يتغاضى عنها أو يتستر عليها. في المقابل، أفرجت المحكمة عن عنصرين آخرين من الدورية لعدم كفاية الأدلة، في خطوة تؤكد على أن الإجراءات القضائية تسير بمسار قانوني دقيق.
وتأتي هذه الأحكام ضمن سلسلة من الإجراءات التي تتخذها حكومة السوداني لمكافحة الفساد، والتي وصفها رئيس الوزراء نفسه بأنها "أولوية قصوى"، فمنذ توليه منصبه، شدد السوداني على أن مكافحة الفساد لا تقتصر على استعادة الأموال المنهوبة أو ملاحقة كبار المسؤولين، بل تمتد لتشمل جميع الممارسات التي تسيء إلى سمعة الدولة والمؤسسات الأمنية.
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي في العراق خلال اليومين الماضيين موجة غضب عارمة، أثارتها لقطات فيديو أظهرت شرطي مرور يتقاضى رشوة مالية من سائق مركبة وسط بغداد. انتشر المقطع بسرعة هائلة، ليصبح حديث الشارع العراقي ودليلاً جديداً على تفشي ظاهرة الفساد داخل المؤسسات الحكومية.
ويُظهر المقطع رجل مرور يوقف سائق مركبة، الذي يحاول تبرير مخالفته بالقول إنه يعمل في جمع العلب المعدنية، وبعد حوار قصير، يلوح الشرطي بتسجيل مخالفة قدرها 50 ألف دينار عراقي (نحو 35 دولارا)، قبل أن يرضخ السائق ويدفع له مبلغ 5 آلاف دينار (نحو 3.5 دولار) مقابل السماح له بمواصلة طريقه. وقد صُوّر المشهد بالكامل عبر بث مباشر لشخص كان يجلس بجانب السائق، مما أدى إلى انتشار واسع للمقطع ووصوله إلى الجهات المعنية.
وبات العراق في المرتبة 140 عالمياً، واحتل المرتبة الثامنة ضمن قائمة الدول العربية الأكثر فسادا للعام 2024، من أصل 180 مدرجة في التصنيف. وهذا الواقع المرير هو ما يدفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات جذرية لإصلاح الوضع.
وفي تصريحات سابقة، أكد السوداني أن مكافحة الفساد تتطلب "مقاربة شاملة لا تستثني أحدا"، وأن الحكومة "لن تتهاون مع أي جهة أو شخص يسيء استخدام منصبه لتحقيق مكاسب غير مشروعة".
ويعكس هذا التوجه رغبة في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، خاصة بعد أن تسببت حوادث فساد سابقة في إحباط واسع بين العراقيين، من أبرزها، "سرقة القرن"، التي تضمنت اختلاس مبالغ مالية ضخمة من هيئة الضرائب، إضافة إلى قضايا فساد في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
وتهدف هذه الأحكام الصارمة إلى توجيه رسالة واضحة لكل من المواطنين ورجال الأمن. فمن جهة، تُظهر الحكومة عزمها على التصدي لأبسط أشكال الفساد، لإثبات أنها لا تتساهل مع أي تجاوزات، مهما كانت صغيرة. ومن جهة أخرى، تشجع هذه الخطوة المواطنين على الإبلاغ عن حالات الفساد، وتؤكد أن هناك جهات مسؤولة ستتخذ الإجراءات اللازمة.
وأكدت وزارة الداخلية، في بيانها، أنها "لن تسمح بأن تكون بعض التصرفات الفردية محسوبة على تضحيات رجالها والخدمات التي يقومون بها في شتى مجالات الحياة وستكون الوزارة بالمرصاد لكل من يحاول الإساءة إلى سمعتها" .
ويعكس هذا التعهد رغبة في تطهير المؤسسة الأمنية من العناصر الفاسدة، للحفاظ على سمعة القوى الأمنية التي بذلت تضحيات جسيمة في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وفي الوقت نفسه، تُعد هذه الإجراءات بمثابة تحذير لجميع منتسبي الأجهزة الأمنية بأن أي سلوك يخلّ بالشرف سيعرضهم للمساءلة القانونية دون تردد.
وتتجاوز أهمية هذه القضية، التي بدأت بصندوق عصير، أبعادها المادية لتصبح رمزا لحملة أوسع ضد الفساد المتجذر. وتؤكد هذه الأحكام أن الحكومة العراقية مصممة على تنفيذ وعودها بمحاربة الفساد على جميع المستويات، وأنها لن تتسامح مع أي تجاوزات، مهما كانت تافهة في نظر البعض.