راجحة القدسي تقاوم الفوضى والعنف بخطاب بصري أنثوي

الأنثى تحضر في لوحات معرض "حوار مع حواء" كرمز محوري يتشكل من الاحتفاء بالمرأة جمالياً وكذلك موضوعيا.
الثلاثاء 2025/09/02
ألوان وشخوص تحاور المرأة

عمان- تركز أعمال الفنانة التشكيلية العراقية راجحة القدسي على ما يتعلق بالأنثى وتجلياتها المختلفة التي ترتبط بمكونات الطبيعة كطيور الحمام والأزهار والنوافذ والشرفات، لتقدم رسالة تحمل في العمق منها معاني المحبة والسلام.

وتتجلى هذه الرسالة في معرضها “حوار مع حواء” المقام بغاليري الأورفلي في عمّان، حيث الاحتفاء بالماضي، وتسليط الضوء على الحاضر، في توليفة صاخبة من الألوان لكنها مدروسة بعناية.

وتحضر الأنثى في لوحات المعرض الذي يستمر حتى منتصف سبتمبر الجاري، كرمز محوري يتشكل من الاحتفاء بالمرأة جمالياً وكذلك موضوعياً، إذ تمثل دوماً معاني الخصب والعطاء والأمل، وتصبح الأيقونات التي ترافق المرأة في هذه الأعمال رموزا لها دلالات عميقة في لغة الفنانة التشكيلية، هي رموز أنثوية قوية مثل الحمامة، القناع، والستائر، تعبر من خلالها الفنانة عن حالات نفسية واجتماعية تمرّ بها المرأة.

تنجز القدسي أعمالها وفق تقنية تعتمد الطبقات المتعددة على الصعيد البصري، حيث تلتقي المرأة بالحديقة، والحمامة بالسماء، والنوافذ الشرقية بزجاجها المعشّق بالذاكرة والرمز، وتتسم لوحاتها بالألوان الهادئة والتكوينات المتزنة، وجعلت المعرض بمثابة رسالة بصرية عن القوّة، الألم، الحنين، والتعافي، بأسلوب واقعي تعبيري يجمع بين الحس الجمالي والبعد الرمزي.

في إحدى لوحاتها نرى خمس نساء يقفن جنبا إلى جنب، وكل منهن تعبّر عن تفاصيل يومية تحيط عالمها؛ صينية الشاي، وباقة الأزهار، والمروحة اليدوية.. وفي اجتماعهن معا تبدو اللوحة كما لو أنها كرنفال أنثوي يحتفي بالفرح، ويعزز ذلك اعتماد اللوحات على الألوان الزاهية من الأخضر والأزرق والوردي، مع تكثيف حضور طيور الحمام البيضاء في الخلفية.

وفي لوحة أخرى منفردة تظهر امرأة تجلس بوقار، تحمل حمامة بيضاء فوق يدها، وهذه الحمامة ليست مجرد عنصر زخرفي، بل تبدو وكأنها تكملة لهيئة المرأة، أي أن السلام أصبح جزءا عضويا من كيانها، وشكّلت الرسومات مع خلفية اللوحة الرمادية مشهدا يقارب الحلم، ويمنح المشاهد متعة الهدوء والتأمل.

وتستوحي الفنانة التشكيلية في عدد من أعمالها من فن العمارة، حيث تجمع بين الفن العربي والزخرفة الإسلامية، ويتضح ذلك من شكل الأقواس والنوافذ، ومن اعتمادها على أسلوب معاصر لإبراز الزخرفة النباتية، ما يعني أنها تتفاعل مع التراث ولا تنسخه كما هو، بل تظهر عوالم جديدة يتلاقى فيها الماضي بالحاضر الذي يتطلع إلى المستقبل، ويتضح ذلك في لوحة لها تعبّر عن مشهد معماري مزخرف، تظهر فيه أقواس النوافذ والألوان القوية التي تؤطر الأشكال الهندسية من المثلثات والمربعات والمعينات.

ومن اللافت أن كل لوحة تفيض بالعديد من الرموز ليس في الشكل وحسب، بل بالألوان أيضا، فالأزرق يحضر دوما كرمز للسماء والعلو، والأخضر للخصب والنماء، والأبيض للسلام والنقاء.. وهي رموز واضحة بعيدة عن التعقيد، يمكن للمشاهد فهمها والتعاطي معها بسهولة، ورؤية المرأة بطريقة مغايرة للمألوف، إذ تتمثل هنا كمركز للكون بمفرداته الظاهرة للعين، وفي تجلياته الروحانية.. إنه شكل عميق من أشكال الخطاب البصري المقاوم للفوضى والعنف اللذين يغلّفان واقعنا.

وراجحة القدسي وُلدت عام 1952 في حي الأعظمية ببغداد، ونشأت في منطقة أبي غريب. هناك، بين الطبيعة والأحياء الشعبية، بدأت شغفها المبكر بالرسم، متأثرة بمحيطها البسيط والإنساني. التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة بغداد، وتخرجت عام 1972، ثم تابعت دراساتها المتخصصة في مجال التصميم، على يد أساتذة مميزين مثل عزام البزاز.

بدأت القدسي مسيرتها الفنية في وزارة الثقافة والإعلام كمصممة أغلفة وملصقات، حيث حصدت عدة جوائز لتميّزها. انتقلت بعد ذلك إلى التدريس في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأسهمت بشكل كبير في تأهيل أجيال من الفنانين الشباب، ملتزمة بأسلوب تربوي إنساني قائم على النقد البنّاء. كما أنجزت جداريات ضخمة، منها جدارية في مطار بغداد الدولي وقاعة آشور، وأخرى في مطار البصرة.

وشاركت الفنانة في معارض تشكيلية منذ سبعينات القرن الماضي، داخل العراق وخارجه، من بينها معارض في باريس، بون، ولندن، ومعارض فردية في الأردن والكويت. وفي عام 2015، أُقيم لها حفل توقيع لكتاب توثيقي عن مسيرتها الفنية، أعدّه الشاعر أديب ناصر. أعمالها تجد حضورا دائما في المشهد الفني العربي، وهي عضو نشط في جمعيات مثل نقابة الفنانين العراقيين وجمعية التشكيليين العراقيين.

تقيم راجحة القدسي حاليا في مدينة مونتريال بكندا، حيث تواصل نشاطها الفني والثقافي. تُعد من أبرز الفنانات العراقيات اللاتي جسّدن التراث والهوية النسائية في الفن التشكيلي، محتفظة ببصمة فنية خاصة تتسم بالدفء، الصدق، والانتماء إلى الجذور رغم البعد الجغرافي.

 

14