"ذاكرة اعتقال".. مقاربة مسرحية لسردية المعذبين في السجون السورية
صدمت الحكايات والصور القادمة من سجون ومعتقلات بشار الأسد العالم أجمع وليس فقط السوريين، حكايات مؤلمة وموجعة رأى المخرج محمد مروان إدلبي أنه من الضروري توثيقها وتخليد الذاكرة الجمعية، عبر عمل فني حمل عنوان "ذاكرة اعتقال"، لاقى استحسان الجمهور، حيث عرض شهادات حية لأناس ذاقوا الويلات في السجون.
حلب (سوريا) - الاعتقال وكل الذكريات التي تتعلق به، مأساة سورية جماعية؛ فأغلب العائلات السورية عانى أفرادها من المعتقلات السورية في مرحلة ما من تاريخ حكم عائلة الأسد الممتد من عام 1971 إلى عام 2024. وهذا ما تحاول مسرحية “ذاكرة اعتقال” تسليط الضوء عليه، عبر مشاهد وحوارات موجعة تقارب سردية بعض المعذبين في السجون والمعتقلات السورية.
جاء هذا العرض المسرحي نتيجة شراكة بين الإبداع المسرحي والمسؤولية الوطنية بتخليد ذكرى المختفين قسرا في معتقلات نظام بشار الأسد وتسليط الضوء على معاناتهم، قدمته مديرية الثقافة في حلب بالتعاون مع شركة “المبدعون السوريون”.
المسرحية تهدف إلى توثيق المعاناة الجماعية، وتكريس ذاكرة وطنية لا تُمحى عن تلك الجرائم ونقلها للأجيال القادمة
والعرض الذي استضافه مسرح نقابة الفنانين في حلب، أخرجه محمد مروان إدلبي ولعب دور البطولة فيه محمود زكور، حيث جسد بأداء ديناميكي حار برفقة كل من الممثلين محمد ملقي وفاطمة عبد وثناء صقر، شهادات حقيقية جمعوها من المعتقلين المحررين لتقديمها إلى الجمهور بجوانب إنسانية، تختصر قصص الآلاف من السوريين في ذاكرة جماعية تسمى “الاعتقال”، وما تحمله من تفاصيل دامية وممارسات لاإنسانية قام بها النظام البائد.
وتركز المسرحية على سرد شهادات واقعية لأشخاص عاشوا تجربة الاعتقال في سجون النظام السوري السابق. وتوثق، من خلال لغة درامية بصرية، مراحل التحقيق والتعذيب والعزل، وحتى التصفية الجسدية والإخفاء القسري. وتهدف الرسالة إلى توثيق المعاناة الجماعية، وتكريس ذاكرة وطنية لا تُمحى عن تلك الجرائم، من أجل نقلها إلى الأجيال القادمة.
تميزت المسرحية بمعالجة إخراجية معاصرة، حيث تم توظيف الإضاءة والديكور والموسيقى التصويرية لإبراز حالة المعتقلين النفسية، ووُظِّفت العناصر المسرحية بشكل يخلق بيئة خانقة ومظلمة تعكس واقع الزنازين، وهو ما ساعد على إيصال الإحساس العام بالانكسار والظلم. وقد تم الحفاظ على توازن دقيق بين الطرح الواقعي والتناول الفني، دون الوقوع في المبالغة أو الاستعراض.
واعتُبرت المسرحية عملًا يحمل بعدًا ثقافيًا وإنسانيًا ووطنيًا، حيث عملت على لفت الأنظار إلى معاناة آلاف العائلات السورية التي فقدت أبناءها في المعتقلات. كما أكد البعض أن هذا العمل يمثل خطوة مهمة نحو توثيق الذاكرة الجماعية ومواجهة النسيان.
وبيّن مدير الثقافة في حلب أحمد العبسي أنه تم عمل مقاربة شهادات المعتقلين والحبكة المسرحية، لبناء سردية حقيقية يجب الحفاظ عليها من جيل إلى آخر، نظراً لما تشكله من إرث يعكس تضحيات الشعب السوري في سبيل التحرر من الاستبداد والطغيان.
وفي تصريح مماثل لفت بطل المسرحية محمود زكور إلى أهمية تقديم سردية المعتقلين بأمانة، مؤكداً أن المسرحية تناولت نسبة محددة من الوقائع التي تناسب عرضها ضمن عمل مسرحي للجمهور العام، فضلاً عمّا تحمله هذه الشهادات من وقائع قاسية يندى لها جبين الإنسانية من التعذيب الجسدي والنفسي، وتجريد المعتقل من مقوماته الإنسانية.
بدوره، أوضح المخرج إدلبي أن المسرحية تتناول ظاهرة الاعتقال في سجون النظام البائد كظاهرة عامة، والتي تحولت فيها أساليب التعذيب إلى سلوك عام لدى إدارات المعتقلات والعاملين فيها، فهي تركز على مراحل الاعتقال منذ بداية التحقيق مع المعتقل وصولاً إلى رحلة التعذيب المأساوية والتصفية الميدانية، وإخفاء هذه الحقائق عن ذوي المعتقل.
وتحدثت الفنانة سلوى جميل عن أهمية المسرحية في تشكيل صورة ذهنية صحيحة عما عاناه المعتقلون، فاستطاعت أخذ الجمهور في رحلة إلى ذاكرة المعتقلين بكل وضوح وشفافية بطريقة إبداعية، تحوّل المأساة إلى أساس للذاكرة الجماعية لدى كل سوري.
وكانت مسرحية “ذاكرة اعتقال” قد قدمت للمرة الأولى في الأسبوع الماضي على المسرح الجماهيري ضمن فعاليات معرض دمشق الدولي في دورته الثانية والستين.
المسرحية تميزت بمعالجة إخراجية معاصرة، حيث وظفت الإضاءة والديكور والموسيقى لإبراز حالة المعتقلين النفسية
ومحمد مروان إدلبي هو مخرج مسرحي سوري ينتمي إلى عائلة مسرحية، حيث ورث حب الخشبة عن والده الفنان الراحل مروان إدلبي. نشأ في مدينة حلب، إحدى أهم الحواضر الثقافية في سوريا، وبدأ مسيرته على المسرح المحلي، ثم انتقل إلى الشاشة الصغيرة، حيث شارك لأول مرة في مسلسل “الثريا” عام 1998. لكن المسرح ظل فضاءه المفضل، وميادينه الحقيقية كانت فوق الخشبة، خصوصًا منذ عام 2008 حين بدأ تقديم أعمال مسرحية جماهيرية.
ويعتبر من المخرجين المسرحيين الذين عالجوا من خلال أعمالهم العديد من القضايا الاجتماعية والإنسانية، التي لامست شريحة واسعة من الناس، ويتميّز بأسلوب إخراجي إنساني مباشر وبعيد عن التعقيد. يؤمن بأن المسرح ليس للنخبة فقط، بل هو للجمهور العادي، ولهذا يعمد إلى اختيار نصوص قريبة من الواقع، محمّلة بالمشاعر والهموم اليومية، ويترجمها بصريًا بلغة سلسة تجعلها مفهومة وملامسة لوجدان المتفرج. وغالبًا ما يكون الإنسان البسيط هو بطل قصصه. هذه الرؤية جعلت أعماله، خصوصًا في المونودراما، قادرة على الوصول إلى جمهور متنوع دون الحاجة إلى بهرجة أو خطاب تنظيري.
كما أخرج أعمالا مسرحية موجّهة للأطفال، يمزج فيها بين التعليم والترفيه، حيث يستخدم شخصيات كرتونية مألوفة وأساليب تفاعلية مرئية لنقل رسائل حول التعاون واحترام الآخر والعمل الجماعي.