خدمات حزب الله الاجتماعية: ركيزة شعبية تفوق قوته العسكرية

نتائج الانتخابات البلدية في مايو 2025 تُظهر مدى صلابة الحاضنة الاجتماعية لحزب الله.
الاثنين 2025/08/11
مهمة معقدة أمام لبنان

بيروت - رغم ما تعرّض له حزب الله من انتكاسات على المستوى العسكري والسياسي، لاسيما بعد انتخاب الرئيس جوزيف عون في يناير 2025، إلا أن الحزب لا يزال يحتفظ بنفوذ شعبي قوي، لا يعود بالأساس إلى سلاحه، بل إلى منظومة الخدمات الاجتماعية التي يقدّمها وتعجز عنها معظم مؤسسات الدولة.

وطالما ظل حزب الله قادرا على أداء مهام الدولة السيادية، من تعليم وصحة وكهرباء ومساعدات اجتماعية، سيظل يمسك بزمام التأثير في الشارع، مستقطبا الدعم، ومقوّضا شرعية الدولة وقدرتها على الحكم.

ويُعد هذا الواقع التحدي الأكبر أمام حكومة عون الجديدة، التي رغم نجاحها في توجيه ضربة سياسية مؤلمة للحزب عبر صناديق الاقتراع، فإنها لم تُفلح بعد في ضرب جذور شرعيته الفعلية: شبكة الخدمات التي ترسّخت في وجدان بيئات مهمشة، غالبًا ما شعرت بأن الدولة تخلّت عنها.

ولم يكتف حزب الله، عبر مؤسساته مثل جهاد البناء، الهيئة الصحية الإسلامية، وكشافة الإمام المهدي، بتقديم البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتوفير التدريب شبه العسكري، وتأطير الشباب ضمن منظوماته الثقافية والعقائدية.

وجاء في تقرير نشرته مجلة ناشونال أنتريست أن رغم الأثر الرمزي لفوز عون بالرئاسة، تُظهر نتائج الانتخابات البلدية في مايو 2025 مدى صلابة الحاضنة الاجتماعية لحزب الله، حيث فازت لائحة حزب الله – حركة أمل بمعظم معاقلها في الجنوب والضاحية، مسيطرة على 109 بلديات في محافظتي النبطية والجنوب، في تأكيد أن شرعية “الخدمات” لا تزال تتفوّق على أي تراجع في شرعية “السلاح”.

طالما أن حزب الله قادر على القيام بمهام الدولة السيادية، فسيظل يحتفظ بنفوذه على السكان، مستقطبا الدعم ومقوضا شرعية الدولة

ولم يكن هذا التمدد ممكنًا لولا البيئة الحاضنة التي وفّرها الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وعجزها المزمن عن توفير الخدمات الأساسية. فالدولة اللبنانية، التي تعاني من أزمة مالية حادة، لم تعد قادرة على دفع رواتب موظفيها بانتظام، أو صيانة مستشفياتها ومدارسها، بينما تجد نفسها مرغمة على الاعتماد على دعم خارجي من شركاء مثل دول الخليج والبنك الدولي.

وهذا الفراغ الذي خلّفته الدولة، ملأه حزب الله ببراعة، واستثمر فيه سياسيا واجتماعيا.

ولا تمر استعادة شرعية الدولة اللبنانية عبر المواجهة الأمنية فقط، بل تبدأ من حيث كسبت الدولة شرعيتها في الأصل: تقديم الخدمات. فحين يرى المواطن أن الدولة قادرة على تزويده بالكهرباء، تأمين الدواء، إصلاح المدرسة، أو حماية أسرته، سيعود للثقة بها، وسيقل اعتماده على أي “دويلة بديلة”. لكن ذلك يتطلب استثمارا سريعا وفعّالا في القطاعات الحيوية، وخصوصا الطاقة والصحة والتعليم.

وإذ تشير التقارير إلى موافقة البنك الدولي على دعم إعادة الإعمار بعد حرب بين حزب الله وإسرائيل، إضافة إلى اقتراح قطري لبناء ثلاث محطات طاقة متجددة، فإن الفرصة متاحة لبيروت اليوم لاستعادة حضورها في حياة الناس. لكن هذه الفرصة يجب أن تُستغل بسرعة، وبدعم سياسي ومالي واضح من الولايات المتحدة وشركائها في الخليج، لترميم صورة الدولة، قبل أن تسبقها الميليشيا مجددًا إلى قلوب الناس وعقولهم.

وأثبتت تجربة لبنان أن التحدي الأكبر في مواجهة الجماعات المسلحة لا يكمن في سلاحها فقط، بل في قدرتها على أن تحلّ مكان الدولة.

ومادامت بيروت متأخرة في تقديم أبسط الخدمات، فإن حزب الله سيبقى قوّة سياسية واجتماعية متجذرة، لا بمجرد خطابات المقاومة، بل بأكياس الدواء، وحصص الطعام، وساعات الكهرباء.

ومن هنا، فإن تفكيك شرعية الحزب لا يكون عبر نزع سلاحه فحسب، بل أولا عبر استعادة وظيفة الدولة الاجتماعية – الركيزة الأولى لأي سلطة شرعية.

وبنى حزب الله ما يشبه “الدولة داخل الدولة”، لكنه لم يكتف بالمرافق والخدمات التي تقدّمها هذه “الدولة الموازية”، بل ذهب أبعد من ذلك إلى تشكيل بنية اجتماعية ثقافية ودينية متكاملة تهدف إلى ترسيخ انتماء سياسي – عقائدي يبدأ من المدرسة، ويمتد إلى المسجد، ويُكرّس في الإعلام، وينعكس في كل تفاصيل الحياة اليومية.

"القرض الحسن" تحوّلت إلى أداة اقتصادية إستراتيجية يتجاوز بها حزب الله قيود النظام المصرفي

ومن خلال مؤسسات يقدّم الحزب التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية والمساعدات الاجتماعية، لكنه في الوقت ذاته يُدرّب الأجيال الصاعدة على عقيدة المقاومة ويغذّيها برؤية ثقافية ودينية تستبطن الولاء للمشروع الذي يمثله.

ولا تدرس المدارس التابعة للحزب فقط المناهج الرسمية، بل تُدخل عناصر تربوية خاصة تسعى إلى غرس مفاهيم المقاومة، والولاء للمحور، وفكرة “الظلم التاريخي” الذي تعرّض له الشيعة، ما يجعل من المدرسة فضاءً تربويًا وسياسيًا في آنٍ واحد.

وتعمل هذه المدارس غالبًا في مناطق تعجز فيها الدولة عن تقديم خدمات تعليمية ذات جودة، ما يجعل خيار الأهالي محصورًا بين التعليم الطائفي المؤدلج، أو لا تعليم على الإطلاق.

وأما قناة “المنار”، فهي ليست مجرد وسيلة إعلامية، بل أداة تعبوية متقدمة، تُنتج الرواية التي يريد الحزب ترسيخها، سواء عن ذاته أو عن خصومه.

وتخدم البرامج الدينية، التغطيات الميدانية، الدراما، والأفلام الوثائقية مشروعًا واضحًا يرمي إلى تكريس صورة المقاومة ليس فقط كفعل عسكري، بل كهوية مجتمعية مكتملة، تطبع الحياة اليومية وتُعيد تعريف المفاهيم الأساسية للمواطنة والانتماء.

ولا تقتصر بنية حزب الله على الخدمات والتعليم والإعلام، بل تشمل أيضًا إنشاء منظومة شبه قانونية، تتجلى في “محاكم شرعية” خاصة بالحزب، تفصل في النزاعات المدنية والمالية، وتطبّق أحكامها ضمن الأوساط الشيعية، ما يضعف ثقة المواطن الشيعي بالقضاء الرسمي، ويعمّق الشعور بالانفصال عن مؤسسات الدولة.

وبهذا الشكل، نجح حزب الله في إنتاج “مجتمع مقاومة”، له رموزه الثقافية والدينية، وله نظامه القيمي الخاص، وله مؤسساته البديلة عن الدولة.

ولا يقوم هذا المجتمع فقط على الولاء السياسي، بل على انتماء اجتماعي عميق، يشعر فيه المواطن أن الحزب هو الحامي والراعي والممثّل، في ظل دولة تبدو غائبة أو عاجزة أو فاسدة.

ورغم أن حزب الله يُعرف غالبًا بذراعه العسكرية ونشاطه السياسي، فإن أحد أبرز مصادر نفوذه وشرعيته في الداخل اللبناني ينبع من قدرته على بناء مؤسسات موازية للدولة، وعلى رأسها شبكته المالية التي ساهمت في تخفيف آثار الانهيار الاقتصادي عن جمهوره، وكرّست حضوره كبديل فعّال لمؤسسات الدولة المنهارة.

حزب الله أدرك مبكرًا أن النفوذ الحقيقي لا يتحقق فقط عبر السلاح أو المقاعد النيابية، بل من خلال ربط الحاضنة الشعبية به عبر حاجاتها اليومية

ويُعد “القرض الحسن” المثال الأبرز على هذه الشبكات، حيث تحوّلت الجمعية، التي تأسست عام 1982 كجهة خيرية لتقديم قروض من دون فوائد، إلى مؤسسة مالية متكاملة تمارس دورا شبيها بالبنوك، لكنها تعمل خارج النظام المصرفي الرسمي.

وفي سياق الأزمة الاقتصادية اللبنانية التي تصاعدت منذ عام 2019، ومع انهيار الثقة في البنوك التقليدية وتجميد أموال المودعين، برزت جمعية “القرض الحسن” كملاذ مالي فعّال للآلاف من المواطنين، خصوصًا في الأوساط الفقيرة والمهمّشة.

ولم تكن القروض التي تقدمها الجمعية مجرد أدوات إنقاذ مؤقتة، بل شكلت شريان حياة حقيقيًا لمجتمعات بأكملها، فقد تجاوزت القيمة الإجمالية للقروض الموزعة حتى عام 2019 نحو 3.5 مليار دولار، بحسب أرقام معلنة.

وقد استفاد من هذه القروض أكثر من 1.8 مليون مواطن، وفق ما أعلنه الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله، في خطاب له، مؤكدا مكانة الجمعية في خدمة “الناس” في ظل ما اعتبره تخلي الدولة عنهم.

ومع تزايد الضغط الدولي والعقوبات على الحزب، تحوّلت “القرض الحسن” أيضًا إلى أداة اقتصادية إستراتيجية يتجاوز بها حزب الله قيود النظام المصرفي، مستفيدًا من شبكة علاقات داخلية وخارجية، ومن الثقة الكبيرة التي بناها داخل مجتمعه على مدى عقود.

وتمارس الجمعية عمليات تمويل، وتحويل أموال، ورهونات مقابل الذهب، وكلها خارج إشراف مصرف لبنان، ما يمنح الحزب مرونة واسعة في التحرك المالي، ويصعب على الدولة تتبعه أو محاصرته.

وأدرك حزب الله مبكرًا أن النفوذ الحقيقي لا يتحقق فقط عبر السلاح أو المقاعد النيابية، بل من خلال ربط الحاضنة الشعبية به عبر حاجاتها اليومية.

وهكذا، لم تكن “القرض الحسن” مجرد جمعية خيرية، بل صارت جزءًا من منظومة أشمل لبناء اقتصاد موازٍ، يلبّي الحاجات الأساسية في التعليم، والصحة، والإسكان، وحتى التوظيف.

ومن هنا، فإن الجمعية ليست فقط مؤسسة مالية، بل هي أداة لشراء الولاء الاجتماعي وترسيخ النفوذ السياسي، خصوصًا في ظل عجز الدولة عن منافستها أو تقديم بدائل فعّالة.

وفي المقابل، لا تزال الدولة اللبنانية عاجزة عن استعادة دورها الطبيعي في تقديم الخدمات المالية للمواطنين، سواء عبر دعم القروض الصغيرة، أو تمويل المشاريع الإنتاجية، أو حتى إعادة هيكلة النظام المصرفي بما يضمن الثقة.

وفي ظل غياب هذا الدور، تستمر “القرض الحسن” في توسيع نفوذها، وتحقيق مكاسب اجتماعية لحزب الله تُمكّنه من البقاء لاعبا محوريا، ليس فقط في السياسة، بل في تفاصيل الحياة اليومية لمجتمعات بأكملها.

6