حل الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل يواجه اختبار الصمود

اتفاق "تاريخي" على استئناف الصادرات النفطية ينعش تسوية باقي الملفات.
الخميس 2025/09/25
تفاؤل حذر باستئناف تصدير النفط

رغم أهمية الاتفاق النفطي بين بغداد وأربيل واعتباره انفراجة “تاريخية”، إلا أن قدرته على الصمود مرهونة بحل ملفات أعمق وأشد تعقيدا. فالتجارب السابقة أثبتت أن أي تفاهم على النفط يظل هشا ما لم يقترن بتسوية شاملة للملفات العالقة، مثل الموازنة ورواتب موظفي الإقليم والمناطق المتنازع عليها.

بغداد - أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الخميس أن وزارة النفط ستتسلم النفط الخام المنتج من حقول إقليم كردستان وتصدره عبر خط الأنابيب العراقي – التركي، في اتفاق وصفه بـ”التاريخي” لينهي بذلك خلافا مزمنا وينعش آمال تسوية بقية الملفات العالقة.

وتمثل هذه الخطوة انفراجة مهمة بعد توقف صادرات تقدر بنحو 230 ألف برميل يوميا منذ مارس 2023، وهو توقف كبّد بغداد وأربيل على حد السواء خسائر مالية جسيمة، وزاد هشاشة الاقتصاد العراقي المعتمد بصورة رئيسية على عائدات النفط.

غير أن التاريخ القريب يظهر أن مثل هذه الاتفاقات، مهما بدت واعدة، تواجه اختبار الصمود أمام تعقيدات العلاقة بين بغداد وأربيل.

من دون ضمانات مؤسسية وآليات تنفيذ فعالة وتوافق سياسي داخلي مدعوم بإرادة إقليمية، قد ينتهي الاتفاق إلى مصير شبيه بسابقيه

ومنذ 2003 تكررت المحاولات لإيجاد صيغة مستقرة لإدارة الثروة النفطية، لكنها جميعا اصطدمت بعقبات سياسية وقانونية.

ولطالما سعى الإقليم إلى إدارة موارده النفطية بشكل مستقل، استنادا إلى حقوقه الدستورية، فيما أصرت الحكومات المركزية المتعاقبة على أن ملف النفط يمثل “سيادة وطنية” لا يمكن التنازل عنها.

وأنتجت هذه الجدلية سلسلة من الاتفاقات المرحلية، سواء في قوانين الموازنات أو عبر تفاهمات مباشرة بين الطرفين، لكنها انهارت عند أول خلاف حول نسب الإيرادات أو صلاحيات التصدير.

ويأتي الاتفاق الجديد في سياق سياسي مختلف نسبيا؛ فالسوداني يحاول تقديم نفسه كوسيط قادر على بناء توافقات داخلية تعزز سلطة الدولة المركزية، فيما يجد إقليم كردستان نفسه تحت ضغط مالي غير مسبوق بعد توقف صادراته النفطية منذ أكثر من عام، وعدم قدرته على دفع رواتب موظفيه بانتظام.

ويجعل هذا التوازن الهش الاتفاق أقرب إلى صفقة اضطرارية لتلبية احتياجات عاجلة، أكثر من كونه تسوية نهائية لقضية عمرها عقدان.
ومن الناحية الاقتصادية يمثل استئناف التصدير عبر الخط العراقي – التركي خطوة بالغة الأهمية. فالعراق يحتاج إلى تعزيز صادراته لزيادة موارده المالية، خصوصاً في ظل تقلب أسعار النفط وارتفاع فاتورة الإنفاق العام.

كما أن عودة تدفق نفط كردستان إلى الأسواق عبر بغداد تعيد جزءاً من العائدات إلى الموازنة الاتحادية، وهو ما قد يساهم في تقليص العجز المالي.
وفي المقابل يعوّل إقليم كردستان على هذا الاتفاق لضمان تمويل رواتب موظفيه واستعادة حد أدنى من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. لكن التحديات لا تزال قائمة.

ويترك غياب إطار قانوني واضح ينظم العلاقة بين الطرفين في ما يخص ملف الطاقة الاتفاق عرضة للتأويل والتجاذبات السياسية. كما أن الخلافات المزمنة حول تقاسم الإيرادات، والشكوك المتبادلة حول آليات الرقابة والشفافية، قد تعيد إنتاج نفس الأزمات التي أطاحت باتفاقات سابقة.

وإضافة إلى ذلك، فإن العامل الإقليمي -وخصوصا دور تركيا- يبقى حاضرا بقوة. فأنقرة تُعد طرفا محوريا في عملية التصدير عبر خط الأنابيب، وقد تستغل هذا الموقع كورقة ضغط في ملفات سياسية وأمنية أوسع.

وبذلك قد يعكس وصف السوداني للاتفاق بالتاريخي طموحا لإعادة ترتيب العلاقة بين بغداد وأربيل على أسس أكثر استقراراً، لكنه يظل مرتهنا بمدى قدرة الطرفين على تحويله من تفاهم تكتيكي مؤقت إلى تسوية إستراتيجية شاملة.

ومن دون ضمانات مؤسسية واضحة وآليات تنفيذ فعالة وتوافق سياسي داخلي مدعوم بإرادة إقليمية، قد ينتهي الاتفاق إلى مصير شبيه بسابقيه، حيث تتكرر الدورة ذاتها من التفاؤل والانهيار.

وقال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في وقت سابق الخميس إن بلاده تكبدت خسائر تراوحت بين 22 و25 مليار دولار نتيجة توقف صادرات النفط من إقليم كردستان. ويمثل هذا الرقم ارتفاعاً عن تقديرات سابقة بخسائر قيمتها 19 مليار دولار حتى فبراير الماضي.

وإلى جانب ملف النفط الذي عاد إلى الواجهة بعد الاتفاق الأخير، تظل هناك سلسلة من الملفات العالقة بين بغداد وأربيل تشكل اختبارا دائما لمتانة العلاقة بين الطرفين.

منذ 2003 تكررت المحاولات لإيجاد صيغة مستقرة لإدارة الثروة النفطية، لكنها جميعا اصطدمت بعقبات سياسية وقانونية

وفي مقدمة هذه القضايا يبرز ملف الموازنة الاتحادية وحصة إقليم كردستان منها، إذ يعود الجدل في كل عام حول آليات صرف مستحقات الإقليم المالية، وربطها بالتزامه بتسليم الإيرادات النفطية إلى الحكومة المركزية.

وغالبا ما يتحول هذا الملف إلى ورقة ضغط متبادلة، حيث ترى بغداد أن أربيل لا تلتزم بشكل كامل بتعهداتها، فيما يعتبر الإقليم أن الحكومة الاتحادية تستخدم الموازنة وسيلة لتقليص هامش استقلاله المالي والسياسي.

ويزداد الأمر تعقيدا مع أزمة رواتب موظفي الإقليم، التي تشهد تأخيرات متكررة وتغذي شعورا بالاستياء الشعبي من غياب تسوية واضحة.

أما الملف الأكثر تعقيدا فيتعلق بالمناطق المتنازع عليها، وعلى رأسها كركوك الغنية بالنفط، وسنجار التي تتمتع بأهمية إستراتيجية وأمنية.

وتعود جذور هذه الأزمة إلى المادة 140 من الدستور العراقي، التي نصت على حل هذه الإشكالية عبر الاستفتاء والتطبيع الإداري، غير أن تنفيذها تعثر مرارا بسبب الخلافات السياسية والتوازنات الأمنية.

وتمثل كركوك تحديدا نقطة التقاء وتنافس بين العرب والأكراد والتركمان، ما يجعل أي خطوة بشأنها شديدة الحساسية داخليا وإقليميا.

أما سنجار فقد تحولت إلى ساحة نفوذ متشابك بين قوات محلية وأخرى مرتبطة بالتحالف الدولي والفصائل المسلحة، ما يضاعف صعوبة التوصل إلى صيغة توافقية لإدارتها.

وتضاف إلى هذه الملفات قضايا أخرى مثل تقاسم الموارد غير النفطية، وإدارة المنافذ الحدودية، وتوزيع القوات الأمنية، وكلها تعكس أن أي اتفاق نفطي، مهما كان مهماً، لا يمكن أن يصمد أو يترسخ ما لم يترافق مع حوار سياسي شامل يعالج جذور الخلافات.

ويرى محللون أن التجارب السابقة، من اتفاقات أربيل 2014 إلى التفاهمات التي أعقبت استفتاء الانفصال في 2017، أظهرت أن غياب حلول متكاملة للملفات العالقة يجعل أي انفراج مؤقتا وقابلا للانتكاس مع أول أزمة سياسية أو اقتصادية.