جنيف.. تُشبه العالم حين يتذكر إنسانيته

مدينة صغيرة بحجم حلم كبير تتّسع لخطى العابر وقلق المقيم.
الأحد 2025/09/07
مدينة تعكس وجها واحدا للجميع

المدن الساحرة لا تصنعها الطبيعة بجمالها فحسب، بل وأيضا التاريخ الذي يتخلل تفاصيلها ويصنع لها صيتها وألقها وجاذبيتها، إنها حكاية الإنسان في النهاية، وهكذا هي جنيف السويسرية التي تتفوق في شهرتها على العاصمة برن، وتمثل نقطة جذب كبيرة للسياح بما لها من معمار وطبيعة مذهلة وتاريخ عريق.

في حضن الألب، حيث يهبط الضوء على صفحة الماء كما لو أنّه يكتب نشيداً شفافاً بالحبر الياقوتي، تتهادى جنيف بعذوبة عروسٍ التحفت بوشاحٍ من أزهار الروابي وورود الوديان. قمّة الجبل الأبيض، بوقارها الرخيم، تتلفّع بنتف الثلج، وتترك لسفوحها أن تسقي الذاكرة من ينابيع بلّورية تذوب في مياه بحيرة ليمان، فتغدو المدينة مرآةً كبيرة للهواء والوقت.

هنا يأتي السيّاح من أطراف الأرض، يضعون تعب المدن المعدنية عند العتبة، ويرتاحون من هوس الدخان والرصاص، ويستسلمون لصفاءٍ مُشذّبٍ كأنّ الطبيعة بالغت في سخائها، فخلعت على جنيف إزاراً وردياً لا نظير له. هذا المشهد، في سكونه المنتبه، يشجّع على التأمّل، كأننا في بانوراما صاغتها يد خبير بنمنمات من جمالٍ خالص وألوانٍ راسخة.

من هنا أيضاً، من هذا الهدوء الذي يقطر معنى، رُفع جرس السلام ذات يومٍ بعيد، عقب أول حربٍ كونية عرفها العالم، فكانت ميلاد عصبة الأمم في 25 نوفمبر 1920. ذلك الجرس الأثري الصغير، المصوغ من حطام مدفعٍ قديم، لا يزال معروضاً في متحف المدينة، شاهداً على مفارقةٍ نبيلة: إنّ حديد الحرب يمكن أن يتحوّل إلى آذانٍ تسمع النداء لا إلى أفواهٍ تنفث النار. وربّما لهذا، ظلّت جنيف تُسمّى “أجمل وأعظم المدن الصغيرة في العالم”: هواؤها لا يزال نقياً، وميادينها لا تعرف فوضى الزحام الخانق، وحركتها تمشي على إيقاعٍ متّزنٍ لا يعلو فيه ضجيجٌ على المعنى.

مدينة تكرم الإنسان

جنيف أيضاً مدينةٌ تُكرّم الإنسان. لا تسأل زائراً عن لونه أو جنسه أو دينه قبل أن تتيح له اتساعها الداخلي. فيها يتحرّر الفكر من قيوده المسبقة، ويتعمّق إحساس المرء بالسلام والأمان. هي البعيدة عن التعصّب والصراعات والاغتيالات، العريقة في حيادٍ احترمته دول الأرض؛ لم تلوث أرضها أدخنة القنابل في الحروب الطاحنة، وحرصت على أن تكون مهداً للمؤسسات التي تصوغ حياةً جديدةً للبشر، حياةً تليق بالكائن الذي ضاقت عليه خرائط العالم ببؤر العنف.

ولجنيف، التي تبلغ مساحتها 15.93 كيلومتر مربع، مذاقٌ خاص لدى السائح العربي بصورة خاصة. فقد استقبل مطارها خلال العام الماضي حوالي 17.8 مليون مسافر في العام. ولهذا اختلطت الحروف اللاتينية بالعربية على واجهات الفنادق والمطاعم والحوانيت ومراسي الزوارق على الشاطئ؛ بل إن كتيّبات الدعاية السياحية صارت تتحدث بلغة الضيف، وكأن المدينة تتعلّم من محبّيها. وجنيف، في أصلها، مدينة تاريخية بامتياز.

شهرة جنيف لا تصدر عن سحر الطبيعة فقط؛ إنها أيضا واحة لعشّاق الحرية والهاربين من القمع والحروب

جنوب غربي سويسرا، على ضفاف بحيرة جنيف / ليمان، ثاني أكبر مدن الجزء الناطق بالفرنسية، وعلى مقربةٍ لصيقةٍ من الحدود الفرنسية. وهي مقرٌ لكثير من المنظمات الدولية.

يمتدّ تاريخ المدينة إلى خمسة آلاف سنةٍ قبل الميلاد. كانت آنذاك مستوطنةً صغيرة على ضفاف ليمان، تستند بيوتها إلى أعمدةٍ مغروسةٍ في ماء المستنقعات، ويعيش أهلها على الصيد قبل أن تتفتّح الزراعة في أكفّهم.

خضعت المدينة للحكم الروماني من القرن الأول قبل الميلاد حتى نصف القرن الخامس الميلادي. كانت حقبة بناءٍ وازدهار: قصور، شوارع مرسومة، أسواق ومياه. لكن هجمات البربر المتعاقبة منذ القرن الثالث أرهقتها؛ سقطت لتغدو عاصمةً للبورغنديين. ولمّا مات الملك رودلف الثالث بلا وريث، سلّمها إلى الإمبراطورية الرومانية المقدّسة (1024م)، وعهد الإمبراطور بإدارتها إلى أسقف. ازدهر اقتصادها، وصار سوقها محطةً لتجارة أوروبا، حتى نقل الملك لويس الحادي عشر النشاط إلى ليون الفرنسية.

تقع جنيف على الطرف الجنوبي الغربي لبحيرة جنيف، حيث تخرج البحيرة لتصبّ في نهر الرون. يحيط بها جبلا جورا والألب، ويعانقها نهر أرف الذي يلتقي بالرون في غرب وسط المدينة. الشتاء هنا باردٌ غالباً وغائم، والثلج يزور المدينة كضيفٍ مؤدّبٍ لا يكثر من الضجيج، لكن أثره يظل في الهواء. تبدأ حرارة الاعتدال في مارس، ويظهر صيفٌ رائقٌ منذ أواخر مايو. ولجنيف عيدٌ يخصّ ذاكرتها: “الإسكاناد” في 11 – 12 ديسمبر، إحياءً لانتصارهم على هجوم دوق سافوا (1602). تُروى حكاية نساء سكبن الحساء الساخن على الجنود المتسلّقين السلالم، فيشترون اليوم “طناجر” شوكولاتة تذوب على اللسان كما لو أنها تعيد صياغة تلك الحكاية في مرارةٍ حلوة.

تُعدّ الجامعة إحدى علامات المدينة الفارقة. أُسست أكاديميةً عام 1559 على يد جان كالفن لتدريس اللاهوت واللغات القديمة، ثم تحوّلت إلى جامعةٍ حديثة في 1873 مع إنشاء كلية الطب. اليوم تحتضن نحو 14 ألف طالبٍ في قرابة 400 برنامج، وتُدرّس بالفرنسية والإنجليزية. خرّجت أسماء نوبلية: فيرنر أربر وإدموند فيشر في الطب، غونار ميردال في الاقتصاد، وكوفي أنان في السلام. تعتمد تقليدياً نموذجاً فرنسياً (ليسانس 4 سنوات، دراسات معمّقة 1 – 2، دكتوراه 3 – 5)، لكنها وقّعت “اتفاق بولونيا” لتوحيد الأنظمة الأوروبية. في هذا الانتقال من اللاهوت إلى العلوم، من الأكاديمية إلى الجامعة، تلخّص المدينة سيرتها: انفتاحٌ على المستقبل مع حفظ الجذور.

شهرة جنيف لا تصدر عن سحر الطبيعة فقط؛ إنها أيضاً واحةٌ ظليلة لعشّاق الحرية والهاربين من هراوات القمع ونيران الحروب. على أرضها وُلد الصليب الأحمر (1863) على يد هنري دونان الذي رأى في “سولفرينو” أشلاء المذابح، فألّف كتابه الشهير “تذكار من سولفرينو” واقترح فكرةً قلبت تاريخ الإنسانية في الحروب. بعد عامٍ واحد وُقّعت اتفاقية جنيف الأولى (1864) لتنظيم معاملة جرحى وأسرى الحرب؛ ومنذ ذلك الحين، ظلّت المدينة مقراً دائماً للمؤسسة الدولية، ومضيفاً لبعثاتٍ ومنظماتٍ حكومية وغير حكومية تحاول، بطريقتها، أن تُقلّل الألم على هذه الأرض.

قال الرئيس الأميركي وودرو ولسن عام 1919 بمناسبة اختيار جنيف مقراً لعصبة الأمم “ليس في العالم بلدٌ كالمحايدة سويسرا.” تتوزع في المدينة منظماتٌ تكاد تكون خريطةً للإنسانية العملية: منظمة العمل الدولية، حقوق الإنسان، الأغذية والزراعة، تنسيق الإغاثة، اليونيسف، مكتب مكافحة المخدرات، مفوضية اللاجئين… وعلى مقربةٍ منها منظماتٌ أممية وأوروبية متخصصة: “سيرن” للأبحاث النووية، الحماية المدنية، الهجرة، الاتحاد الدولي للاتصالات، الاتحاد البرلماني الدولي، مفوضية حقوق الإنسان، الصحة العالمية، الملكية الفكرية، الأرصاد الجوية، التجارة العالمية.

كثيرٌ من هذه المكاتب يتجاور في “قصر الأمم”، مبنى هائل يزوره نصف مليون سائح سنوياً، خليطٌ معماريّ يجمع أوروبا والأميركتين وآسيا، جُلبت مواده من بلدانٍ عديدة، وزُيّنت جدرانه بلوحاتٍ لمشاهير الفنّانين. هنا تتحوّل ساعات العمل إلى خلية نحلٍ بشرية: وجوهٌ من كل الأجناس، لغات، ثقافات، مصالح، وآمالٌ صغيرةٌ وكبيرةٌ تتفاوض على تفاصيل عالمٍ أقلّ توحشاً.

عروس بحيرة ليمان

على ضفاف ليمان تتعانق الحكايات
على ضفاف ليمان تتعانق الحكايات

المدينة العتيقة تعبق بالزمن: مبنى البرلمان، شارع الرول، القصور القديمة بأعمدتها المرمرية، الجسر على الرون، الجامعة القديمة، ساحة “بورغ دي فور” أقدم ساحات المدينة، الساعة الزهرية التي تجمع بين هندسة الزمن وهندسة النبات. متاحفها كثيرة: متحف الفن والتاريخ بما يضمّ من آثار اليونان وروما ومصر والعراق، متحف الساعات الذي يسرد تطوّر الدقة من القرن السادس عشر حتى الآن، “القصر الصغير” ولوحاته لبيكاسو ورينوار وشاغال، المسرح الكبير، قاعة فيكتوريا للموسيقى، متحف الآلات الموسيقية، متحف النباتات الذي يجاور حدائق كأنها دروس في تنسيق اللون والضوء.

من خصائص جنيف المشهودة بحيرتها الهائلة (282 كم²)، التي تزوّد المدينة بنحو 80 في المئة من مياه الشرب، وتحتوي سبعةً وعشرين نوعاً من الأسماك، ويبلغ عمقها 310 أمتار. ثلثاها في فرنسا والثلث الآخر في سويسرا، وكأنها جغرافيا تتشارك الهواء والماء عبر الحدود. نافورتها الشهيرة ترشق الماء حتى 140 متراً بسرعة تدفّقٍ تبلغ تقريباً 230 كم/ساعة وبمعدّل 500 لترٍ في الثانية، تُغذّيها محطة رفع قريبة.

وللنافورة قصةٌ مع أهل المدينة: حين انخفض منسوب البحيرة في الخمسينات وتغيّرت نوعية المياه، اقترح البعض إيقافها، فاعترض السكان لأن النافورة ليست مجرّد مشهدٍ مائي بل ذاكرةٌ تقوم في الهواء؛ طُوّرت بتوربيناتٍ جديدة واستمرّ اندفاعها حتى صارت رمز المدينة منذ تصميمها الأول عام 1886 (لخفض ضغط المياه)، ثم تطويرها في 1891 مع الإضاءة، وتحديثها عام 1951. نعم، ثمة نافورةٌ شقيقةٌ في دبي بارتفاع دفعٍ أكبر، لكن التي في جنيف هي “الأصل” الذي يزاوج العراقة بالوقار.

تجوب القوارب السياحية صفحة البحيرة، وتتكشّف لك صورٌ صافية: شريط ماءٍ يقسم الضوء، يخوتٌ ترسو كخيلٍ مُلجَمة عند خطّ انطلاقٍ أبديّ، طيور نورسٍ وبجعٌ يلتمع على سطحٍ لا يكفّ عن التجدّد. وعلى جزيرةٍ في القلب ينتصب تمثال جان جاك روسو، ابن المدينة الذي أثّر بفكره في الثورة الفرنسية أكثر مما أثّر في شوارع جنيف الضيّقة. من هنا أيضاً تتبعثر سيرة “بل إير”، الساحة التي ضمّت صنّاع السكاكين والدبّاغين، وتمثال فيلبير برتيليه الذي قُطع رأسه (1519) دفاعاً عن حريات الوطن، وساحة سان جيرفي حيث أقام صناع الساعات وبائعو الحلي نقشهم اليومي على معادن الوقت.

وعلى شاطئ البحيرة يطلّ مبنى فريدٌ بزخارف قبته وحديقته الغنيّة بأحواض الورد: ضريح دوق بروسويك الذي أوصى بثروته لجنيف. غير بعيدٍ عنه يقع قصر ولسن، الذي كان مقراً لعصبة الأمم حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. تمضي على “الكورنيش” بين أحواض الزهر ومقاعد تطلّ على الفسحة الزرقاء، طيور النورس تغسل أجنحتها وأطفالٌ يرمون الفتات للأوزّ؛ مشهدٌ لا يُشيخ.

لا ينسى الزائر العربي المسجد والمؤسسة الإسلامية. في المدينة قرابة عشرة آلاف مسلم، وقد أسّس الملك فيصل المؤسسةَ لتلبية حاجاتهم الدينية والاجتماعية والثقافية، وربطهم ببقية الطوائف عبر حوارٍ عمليٍّ ثابت. المسجد مثمّن الأضلاع، جدرانه منقوشةٌ بيد ثلاثين صانعاً مغربياً، محرابه مكسوّ بخشب الأرز، وثريّته تضمّ خمسمئة “شمعة” من بلّور البندقية صاغها العدد نفسه من الحرفيين. واجهة المكتبة فسيفساء زجاجٍ فينيسي، ورخام الأعمدة والأرض والجدران من “كارارا” الإيطالية. هذا التفصيل في العمارة ليس ترفاً؛ إنه بيانٌ جماليٌّ عن معنى الضيافة التي تجمع الشرق والغرب في بيتٍ للعبادة والمعرفة.

العبور إلى الضفة الأخرى أجمل بالقوارب. التذكرة معقولة، والرحلة تمتد لساعتين في زورقٍ أنيقٍ بين مجموعاتٍ من الأميركيين وسواهم. يعبر بك المركب إلى المياه الفرنسية داخل البحيرة، حيث الحدود سطرٌ شفافٌ على صفحة الماء. هناك تمثال لعروس البحر، حارسة ليمان، وصخرةٌ تُنسب إلى “نبتون” سيد البحر في الأسطورة اليونانية. عند المرفأ ترى آخر مركبٍ شراعي لنقل السلع (1904) بحمولة 120 طناً، وتقرأ على لوحة “المرفأ الأسود” تذكار نزول أول سويسريين إلى جنيف بعد انضمامها إلى الاتحاد.

جنيف مدينةٌ تُكرّم الإنسان ولا تسأل زائرا عن لونه أو جنسه أو دينه قبل أن تتيح له اتساعها الداخلي

ولأن المدينة استقطبت الوحي قديماً للشعراء والفلاسفة، تمرّ ببيتٍ سكنه “اللورد بايرون”، وتحيّةٌ عابرة لمدام “دي ستال” في بيتها الذي كان صالوناً باريسياً مفتوحاً للفكر والحب والسياسة، حيث التقت جوزفين بنابليون قبل أن تتبدّل حياتهما. بين المدينة القديمة والميناء حيٌّ تجاريٌّ يعرض عراقة جنيف في ساعاتٍ ومجوهراتٍ وتذكاراتٍ دقيقة الصنع. وفي “مولار” القلب النابض منذ القرون الوسطى، سوقٌ يومي للأزهار، وتجارٌ للفواكه والخضر يقدّمون طعماً مختلفاً عمّا اعتاده الشرق. الجلوس على مقهى هناك فاصلٌ جميلٌ بين قراءتين للحياة.

أمّا نهر الرون، شريان المدينة، فطوله 812 كم (290 في سويسرا)، ينبع من الفاليه على ارتفاع 1750 م، ويصب في المتوسط بعد أن يعبر ضفافاً خضراء وصخوراً شاهقة. ولعل تفرد جنيف يعود إلى أنها تكاد تخلو من “أحياء خلفية” بالمعنى البائس للكلمة؛ ريفها ملتصقٌ بها كحديقة، وأهم ضواحيها “كاروج” التي بُنيت في القرن الثامن عشر على يد مهندسين من تورينو بأمر ملك سردينيا، قبل أن تُضمّ إلى كانتون جنيف (1815). تحكي “كاروج” أنها كانت مأوى للصوص في عصور التشدد الأخلاقي؛ مفارقةٌ أن يهاجر “الذنب” إلى هامش المدينة حين تضيق المدينة بالذنب، لكنها اليوم حديقة من بيوتٍ ومقاهٍ وأسواقٍ هادئة.

تجذب جنيف العربي أكثر مما تجذبه عواصم أوروبية كثيرة، ربما لأن البلد خفّف القيود على الدخول والخروج فصار البراح ممكناً. هي أيضاً مفضّلةٌ لعقد مؤتمراتٍ عربيةٍ مفصلية: المصالحة اللبنانية (1984)، مؤتمر السلام في الشرق الأوسط (1973). والكثير من رجال الأعمال العرب اتخذوها مقراً لنشاطهم لما توفره من تسهيلاتٍ ضريبية، وصارت المدينة مصدراً رئيسياً لتصدير المجوهرات إلى الخليج، والساعات المصمّمة بذوقٍ يراعي الهوية العربية والإسلامية.

ومع ازدياد الزوار صارت الكتيبات السياحية بالعربية، وكذلك مواد التسويق؛ على شارع الجبل الأبيض ولوزان ودي كارو ترى لافتات تقول “نحن نتحدث العربية.” الفنادق الكبرى -الهيلتون، إنتركونتيننتال، بوريفاج، ريتشموند، بريزيدنت- تحرص على موظفين يتكلمون لغة الضيف، وتضع بطاقات ترحيبٍ بالعربية في الغرف، وقوائم أفلامٍ عربية. تلحظ عائلاتٍ عربية تمضي عطلتها كلها في المدينة كأنها بيتٌ موسّعٌ على ضفاف بحيرة.

في الكتيّبات إعلاناتٌ عن مطاعم شرقية: كباب ولحوم مشوية وأرز، وعن مراكز علاجٍ طبيعي بالأعشاب للتجميل والعافية: تدليك، بخار، عصائر نباتية يومية، وحِميات تعالج السمنة والتوتر وارتفاع الضغط والكوليسترول واضطراب الدورة الدموية. قوائم الطعام تمزج السلطة بالدجاج وفخذ الضأن والكباب وخبزٍ بلديّ على الطريقة الشرقية. وتقرأ إعلاناً عن سائقٍ يتكلّم العربية والفرنسية والإنجليزية “طوال مدة الإقامة”، وآخر عن مطعم “شرقي” يفتح من الظهر حتى منتصف الليل بطبقاته العائلية وخدمة توصيل. حتى هناك إعلانٌ غريبٌ بالعربية عن مخبرٍ خاص للتحريات والحماية وبيع ستراتٍ واقية، مفارقةٌ بين مدينةٍ تحرس أمنها العام وبين طلبات الأفراد في عالمٍ يتغيّر.

ولمّا كان السائح العربي يحب أن يفهم جذوره البعيدة، نشرت مجلاتٌ متخصصة بحوثاً تؤكّد علاقاتٍ تاريخيةً بين سويسرا والعرب منذ عهود الاضطهاد الروماني في مصر والشام؛ كثيرون فرّوا آنذاك إلى جنيف، فصارت المدينة مأوىً للناجين قبل قرونٍ من أن تسمّي نفسها “محايدة”. اليوم، تتطلع المكاتب السياحية السويسرية في الخليج إلى “50 مليون ليلةٍ سياحية” داخل فنادقها. وفي الثقافة تحرص المدينة على تقديم التراث العربي في مكتباتٍ متخصصة تضمّ كتب الأدب والشعر والاقتصاد وكتب الأطفال والأشرطة الغنائية والأفلام.

يشكّل قطاع الخدمات الدعامة الرئيسية لاقتصاد جنيف: مركزٌ قوي للتجارة، متخصصٌ في البنوك بإجمالي أصولٍ يناهز التريليون دولار، ومركزٌ لتجارة السلع الاستهلاكية. ازدهارها أفضى إلى تلاشي البطالة تقريباً، حتى اقتُرح تخفيض ساعات العمل. في سويسرا عموماً، للعمل مكانةٌ أخلاقيةٌ وجمالية: النظام ثمرةُ احترام الوقت، والانضباط ليس قمعاً بل طريقةٌ لإكرام الحياة. ربما لهذا تتماسك المدينة: لأن اقتصادها ليس ضد الإنسان، بل معه، ولأن البنية التحتية الأخلاقية تسبق البنية التحتية الإسمنتية.

على ضفاف ليمان تتعانق الحكايات: امرأةٌ عجوز تقتسم فتات الخبز مع أوزٍّ أبيض يُزاحم الماء بحنان، طفلٌ يُلاحق طائرة ورقية على العشب، زوجان يلتقطان صورة أمام النافورة التي تقسم السماء بخيط ماء. في زقاقٍ قريب مقهى صغير يقدّم شوكولاتة ساخنة في “طنجرة” تقليداً لذكرى “الإسكاناد”، في الطابق السفلي من مبنى عتيق محل ساعاتٍ يلمّع واجهته كل صباح كما لو يلمّع الوقت نفسه. هذه المشاهد ليست زينةً فوق المشهد الكبير؛ إنها المعنى الدقيق الذي يسند الصورة الكبرى: مدينةٌ صالحت بين القيم اليومية والتطلّعات الكونية.

مدينة تليق بالإنسان

مزيجٌ بين رهافة مطلوبة وواقعية لازمة
مزيجٌ بين رهافة مطلوبة وواقعية لازمة

في قلب المدينة الحديثة يمشي “قصر الأمم” على مهلٍ بين وفودٍ ومترجمين وأوراقٍ تحمل مصائر البشر. قد يبدو الأمر بيروقراطياً لأول وهلة؛ لكنه في العمق تمرينٌ على البداهة: أن نختلف دون أن نقتل، وأن نتحاور دون أن نُهين. بهذا المعنى لا يعود “حياد جنيف” ترفاً سياسياً، بل هو أخلاق حياةٍ تتطلّب توازناً دقيقاً: أن تكون قريباً بما يكفي لتواسي، وبعيداً بما يكفي لتحكم بالعدل.

ليس في جنيف سحرٌ سريٌّ لا يُفسَّر؛ كل ما فيها واضحٌ للعين التي تعرف أن ترى: طبيعةٌ منحازةٌ إلى الجمال دون ضجيج، تاريخٌ عتيقٌ تمرّن على الحرية، مؤسسات تُعيد تسمية المروءة في زمنٍ صعب، اقتصادٌ يشتغل بلا صخبٍ زائد، ومجتمعٌ تعلّم أن يضع الاختلاف على الطاولة لا في الخنادق. لهذا تُسمّى “واحةً ظليلة لعشّاق الحرية”: لأن الظلّ فيها ليس هرباً من الشمس، بل استراحة محاربٍ من معاركٍ لا تنتهي؛ ولأن الحرية ليست شعاراً يُرفع في الساحات فحسب، بل سياسةُ حياةٍ تُصان في المدارس والمتاحف والمرافئ والمقاهي والجامعات.

من قمة الجبل الأبيض حتى أعمق نقطةٍ في بحيرة ليمان، ومن قبة المسجد المثمّن إلى قاعات “قصر الأمم”، ومن متحف الساعات إلى سوق الأزهار، تتشكّل جنيف كأنها قصيدة وتقرير في آنٍ واحد؛ مزيجٌ بين رهافةٍ مطلوبة وواقعيةٍ لازمة. هي مدينةٌ تتّسع لخطى العابر وقلق المقيم، لذكريات الهاربين من الحروب وأحلام الأطفال الذين يجرّبون ركوب الريح على درّاجاتٍ صغيرة. ولعلّنا، ونحن نغادرها، نفهم سرّ انجذابنا: لا لأنها أجمل المدن الصغيرة فحسب، بل لأنها تُشبه العالم حين يتذكر إنسانيته؛ العالم وهو يتعلّم، برويّة، أن يجعل من الجمال سياسةً ومن العدالة عادة، ومن الماء مرآةً تعكس وجهاً واحداً للجميع.

11