جفاف نهر العاصي بسوريا.. أزمة بيئية تفاقمها السياسة

تتحكم تركيا في منابع النهر عبر بناء السدود، يقلل تدفقه إلى سوريا، مما يفاقم الأزمة المائية لغياب اتفاق ملزم.
الأحد 2025/08/31
أسوأ موجة جفاف منذ نصف قرن

دمشق - يعاني نهر العاصي في سهل الغاب بشمال غرب سوريا من جفاف لأول مرة منذ عقود، مخلفا وراءه أرضا متشققة وبركا راكدة، بعد أن كان النهر شريانا مائيا ومصدرا للحياة، حيث أصبح الآن ساحة لمعركة ضد الجفاف والفقر.

وبينما يعمد السكان إلى الصيد البدائي بحثا عن لقمة العيش، تتكشف أزمة إنسانية وبيئية أعمق، لا تقتصر على العوامل الطبيعية، بل تمتد لتشمل دوافع سياسية واقتصادية.

وذكرت الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) اليوم الأحد أنه رغم الجفاف يعمد المئات من الأشخاص إلى صيد عشوائي بطرق بدائية في النهر، محاولين اصطياد ما تبقى من الأسماك قبل أن يختفي النهر، لكن وراء هذه الصورة الإنسانية المؤثرة، يختبئ تحذير صارخ حول انقراض الحياة المائية وانهيار نظام بيئي كامل إن لم تتخذ إجراءات عاجلة لإنقاذ ما تبقى.

وحذر المواطن باسم حبابة، وهو صياد من بلدة التمانعة، من أن نهر العاصي يشهد أسوأ موجة جفاف منذ 54 عاما، حيث انخفض منسوب المياه بشكل مخيف، ما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة من الأسماك بسبب انحسار المياه وارتفاع درجة الحرارة، إضافة إلى تراجع مستوى الأمطار إلى أقل من ربع المعدل السنوي، مبينا أن هذه العوامل مجتمعة عمقت أزمة الجفاف وجعلت النهر يعاني تراجعا حادا.

وأضاف "تضررت أنواع سمكية مثل الكرب والسلور المحلي والمشط والعاشب، التي تشكل مصدرا غذائيا واقتصاديا للسكان، فيما تفاقم الوضع بسبب انتشار أنواع غازية مثل السللور الأفريقي، الذي يفترس بيوض الأسماك المحلية ويهدد التنوع البيولوجي".

ومع انحسار المياه، لجأ صيادون من قرى التمانعة وجسر بيت الراس والعمقية وقبرفضة إلى صيد بدائي باستخدام شباك وصنارات تقليدية، حسب الصياد ماجد عبدو من بلدة جسر بيت الراس، الذي قال"لم يعد هناك ما نصطاده.. الأسماك التي كانت مصدر رزقنا ولقمة عيشنا صارت ذكريات".

وقال محمد ضاهر وهو صياد من قرية العمقية إن جفاف النهر أدى إلى انهيار المشاريع السمكية على سرير نهر العاصي، حيث انخفض إنتاج المزارع السمكية في سهل الغاب من 40 في المئة إلى أقل من 10 في المئة من الإنتاج، واضطر أصحابها لدفع تكاليف باهظة لضخ المياه من الآبار الجوفية، في حين أثر جفاف النهر أيضا على ري المحاصيل، ما دفع المزارعين إلى تقليص المساحات الزراعية أو ترك الأراضي بورا، كما اضطر البعض إلى استخدام مصادر مائية ملوثة بسبب الجفاف وهو ما قد يؤدي إلى انتشار الأمراض.

ورغم أن تقرير "سانا" ركز على الأسباب الطبيعية والممارسات البشرية كصيد الأسماك العشوائي، لكنه ألمح إلى أن هذه الممارسات هي "دلالة على إهمال طويل الأمد وتغير مناخي لم يستعد له"، في إشارة واضحة إلى فشل نظام الرئيس السابق بشار الأسد في إدارة هذه الأزمة.

وتتعقد الأزمة أكثر عند النظر إلى الوضع الجيوسياسي للمياه، فنهر العاصي هو نهر مشترك مع دول أخرى، أبرزها تركيا التي تتحكم في منابع بعض روافده.

وقد أدت المشاريع المائية التركية، مثل بناء سد الريحانية، إلى تقليل التدفق الارتدادي الطبيعي للمياه نحو سوريا، مما جعل منسوب النهر تحت رحمة السلطات التركية.

فعندما تستمر تركيا بحجز كميات أكبر من المياه عبر السدود والبحيرات، يصبح ما تسحبه يفوق ما يمكن للمصدر تزويد المجرى به، ما يؤدي إلى انخفاض هستيري في المنسوب، حتى يجف النهر تماما خلال فصل الصيف.

ويأتي هذا التحكم الكامل في الموارد المائية في ظل غياب اتفاق ملزم لتقاسم مياه العاصي مع سوريا، مما يمنح تركيا حرية التحكم بالمجرى المائي دون الالتزام بحصة محددة. كما أن إهمال تنفيذ مشاريع تعاون مائية مشتركة مثل "سد الصداقة" الذي كان يمكن أن يضمن تدفقا منصفا، فاقم الأزمة.

هذا الواقع يثير تساؤلات جدية حول تأثير الخلافات السياسية على تفاقم أزمة الجفاف في الجانب السوري من النهر، مما يشير إلى أن أزمة الإهمال المشار إليها قد تكون نتيجة لأوضاع سياسية واقتصادية معقدة.

واختتم التقرير بتحذير صارخ، حيث أكد أن نهر العاصي لم يعد مجرد مورد مائي، بل أصبح شاهدا على أزمة بيئية وإنسانية تتفاقم بلا حلول جذرية، ونبه إلى أن إنقاذ النهر يتطلب تدخلا عاجلاً من المؤسسات الحكومية والمجتمع المحلي، قبل أن يتحول إلى صفحة من تاريخ لا يمكن إرجاعها.