"جاد"… فيلم تونسي يُداوي بالصورة ما عجز عنه النظام

في "جاد"، تتحول الكاميرا إلى شاهد صامت على تدهور منظومة بأكملها؛ لا يوجّه فيها المخرج الاتهام لأفراد بعينهم، بقدر ما يُعرّي واقعًا بنيويًا متجذرًا في البيروقراطية، واللامبالاة.
الاثنين 2025/10/20
حظي بإشادة نقدية وجماهيرية لافتة

تونس – احتضن مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة، الأحد، العرض ما قبل الأول في تونس للفيلم الروائي الطويل “جاد” للمخرج جميل النجار، بعد أن عُرض سابقًا في كل من المغرب والجزائر، حيث حظي بإشادة نقدية وجماهيرية لافتة. وقد توّج الفيلم مؤخرًا بجائزة الجمهور في مهرجان عنابة السينمائي في أكتوبر الجاري، كما نال محمد مراد جائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم خلال مهرجان الدار البيضاء السينمائي في يونيو 2025.

استوحى جميل النجار سيناريو الفيلم من واقعة حقيقية هزّت الرأي العام التونسي، بطلها طبيب يعمل في المستشفى الجهوي بمحافظة جندوبة (أقصى الشمال الغربي لتونس)، تعرّض لحادث سقوط مروّع داخل مصعد معطّل. الحادثة كانت شرارة لنقاش واسع حول واقع المنظومة الصحية العمومية في تونس، وهي القضية التي اختار المخرج أن يسلّط عليها الضوء عبر رؤية فنية وإنسانية شديدة الحساسية.

يمثّل الفيلم التجربة الروائية الطويلة الأولى لجميل النجار، وقد صُوّر في شهر أغسطس 2024. لكنه، رغم حداثته، يُظهر نضجًا فنيًا وإنسانيًا لافتًا

تدور أحداث “جاد” حول تصادم طبقتين اجتماعيتين في فضاء واحد: مستشفى عمومي. الأول، رجل أعمال ثري تعرّض لحادث سير، والثاني، عامل بناء فقير سقط من ورشة أثناء العمل. كلاهما نُقل إلى المستشفى ذاته، ليبدأ مسار تراجيدي يكشف هشاشة القطاع الصحي وتداعياته المأساوية، لا فقط على المرضى، بل على أسرهم والعاملين في القطاع الصحي أيضًا.

يضم طاقم التمثيل نخبة من الوجوه البارزة، بينهم: محمد مراد، ياسمين الديماسي، سوسن معالج، سهير بن عمارة، عبدالكريم البناني، جمال ساسي، محمد علي بن جمعة، وفتحي مسلماني. وقد قدّم الممثلون أداءً اتسم بالصدق والانضباط، متماهين مع النبرة الواقعية التي يتبناها الفيلم، في غياب تام للمبالغة أو التصنع.

يمثّل “جاد” التجربة الروائية الطويلة الأولى لجميل النجار، وقد صُوّر في شهر أغسطس 2024. لكنه، رغم حداثته، يُظهر نضجًا فنيًا وإنسانيًا لافتًا، ينبئ بولادة مخرج يمتلك أدواته السينمائية ويعي مسؤولية ما يقدّمه. فالفيلم لا يكتفي بسرد مأساة مستوحاة من واقع مرير، بل يتخذ من السينما وسيلة للمساءلة والمواجهة.

في “جاد”، تتحول الكاميرا إلى شاهد صامت على تدهور منظومة بأكملها؛ لا يوجّه فيها المخرج الاتهام لأفراد بعينهم، بقدر ما يُعرّي واقعًا بنيويًا متجذرًا في البيروقراطية، واللامبالاة، والعنف الرمزي المسلّط على الإنسان حين يصبح مجرد رقم في سجل إداري بارد.

استوحى جميل النجار سيناريو الفيلم من واقعة حقيقية هزّت الرأي العام التونسي، بطلها طبيب يعمل في مستشفى، تعرّض لحادث سقوط مروّع داخل مصعد معطّل

يعتمد النجار، منذ اللقطة الأولى، لغة بصرية متقشّفة، تحاكي برودة الجدران البيضاء للمستشفيات العمومية. إضاءة باهتة، إيقاع بطيء، لقطات طويلة، وأداء محسوب بدقة. لا مكان للعاطفة المفتعلة أو الموسيقى الدرامية الجارفة. كل شيء هنا صامت لكنه يقول الكثير. تفاصيل صغيرة – نظرة ممرضة عاجزة، مريض يستغيث دون صوت، مدير يبيع الوهم أمام الكاميرات – كلّها ترسم ملامح واقع مأزوم لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى من يصغي له.

اختار جميل النجار توظيف صور قاسية “دون رتوش”، ليضع المتفرّج في مواجهة مباشرة مع مأساة يصعب تجاهلها. الفيلم يُظهر غياب أبسط مقوّمات الرعاية الصحية: تجهيزات متهالكة، بنية تحتية متهدمة، طوابير انتظار مهينة، ووجوه متعبة لمرضى وأطباء على حد سواء. كل مشهد يفتح نافذة على عالم منسي، ويعيد طرح السؤال القديم الجديد: من يحمي الضعفاء في مؤسسة باتت عاجزة عن حماية نفسها؟

ينطلق العرض التجاري للفيلم وفق وكالة تونس أفريقيا للأنباء في القاعات التونسية ابتداءً من 22 أكتوبر الجاري، وقد أعلن فريق العمل أن عوائد الفيلم ستُخصّص لفائدة المستشفيات التونسية، في مبادرة رمزية تعبّر عن روح التضامن والوعي التي يستبطنها العمل.

“جاد” ليس مجرد فيلم، بل تجربة إنسانية وفنية تُعيد للسينما دورها الجوهري: أن تكون صوتًا لمن لا صوت له، وشاهدًا على زمن يُهدَّد فيه الحق في الحياة الكريمة. في زمن تهيمن فيه سينما الترفيه والاستهلاك، يأتي “جاد” ليقول كلمته بهدوء… لكنه يترك صداه عميقًا.