توطين الشركات الصينية في الجزائر: بوابة جديدة للتأثير السياسي

الحوكمة الرقمية تمنح بكين نفوذا إستراتيجيا جديدا.
الاثنين 2025/09/01
تحول عميق في طبيعة الوجود الصيني

العلاقات بين الجزائر والصين تتطور بشكل متسارع، حيث لم تعد تقتصر على التعاون الاقتصادي فقط، بل امتدت أيضا إلى توطين الشركات الصينية في الجزائر واستخدام الحوكمة الرقمية لتعزيز النفوذ الصيني. وتشكل هذه التطورات بوابة جديدة للتأثير والالتزام السياسي بين البلدين، في ظل التحديات التي تواجهها الجزائر داخليا والخطط الصينية للتوسع في أفريقيا.

بكين – تمثل العلاقات بين الجزائر والصين مثالا حيا على شراكة إستراتيجية تمتد جذورها إلى مراحل مبكرة من تاريخ التحرر الوطني، حيث كان دعم الصين لجبهة التحرير الجزائرية خلال الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي علامة فارقة في بناء جسور التعاون بين البلدين.

ومع مرور الزمن، تطورت هذه العلاقة من دعم سياسي وعسكري إلى تعاون اقتصادي متنوع وشامل، وخاصة مع التغيرات الجذرية التي شهدها الاقتصاد الصيني وتحوله إلى لاعب عالمي رئيسي في مجالات التكنولوجيا والاستثمار.

وتحولت الجزائر اليوم إلى نقطة ارتكاز إستراتيجية ضمن مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين، حيث تلعب دورا محوريا بفضل موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية، ما جعل توطين الشركات الصينية في البلاد خطوة حتمية لتحقيق مصالح مشتركة وتحقيق نمو اقتصادي متبادل.

ولا يعني توطين الشركات الصينية في الجزائر مجرد زيادة استثماراتها أو مشاريعها، بل يشير إلى تحول عميق في طبيعة وجودها، حيث يتم الانتقال من نموذج يعتمد بشكل كبير على الكفاءات والعمالة الصينية إلى دمج أوسع للقوى العاملة والكوادر الجزائرية ضمن هذه الشركات.

ويشكل هذا التحول فرصة ثمينة لتعزيز الاقتصاد الجزائري، حيث يمكن أن يؤدي إلى نقل المعرفة التقنية والخبرات المهنية، وخلق آلاف الفرص من العمل التي تدعم التنمية المحلية.

التكنولوجيا أداة تسمح بالتأثير على السياسات الداخلية للجزائر، ما يحمل أبعادا حساسة تتعلق بالسيادة والخصوصية

ويرى الباحث آرون غلاسرمان في تقرير نشرته مؤسسة جيمس تاون أن هذا التوطين لا يخلو من تحديات كبيرة، خصوصا في ظل واقع بيئة الأعمال الجزائرية التي تواجه عقبات مثل البيروقراطية المعقدة، والفساد الإداري، وتقلبات السياسات الداخلية التي تتأثر بالأحداث الاجتماعية والسياسية مثل الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد.

وتعكس التجربة الصينية في توطين شركاتها في الجزائر كذلك محاولات للتكيف مع هذه التحديات، حيث باتت الشركات أكثر حرصا على فهم القوانين المحلية، والانخراط في البرامج التدريبية، وتعزيز التعاون مع الجهات الرسمية والمجتمعية، بهدف بناء علاقات مستدامة تُسهم في استقرار استثماراتها.

وهذا التوطين يمتد تأثيره إلى الأبعاد السياسية، حيث يُنظر إليه كمدخل جديد لتعميق النفوذ الصيني، لاسيما وأن وجود الشركات الصينية أصبح مرتبطا بشكل وثيق بالهيكل الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر، مما يفتح الباب أمام علاقات سياسية أكثر تفاعلا وتداخلا.

ومن جهة أخرى، لعبت الحوكمة الرقمية دورا متناميا في تقوية هذه العلاقة، إذ باتت الجزائر تركز على تطوير بنيتها التحتية الرقمية بالتعاون مع الشركات الصينية الرائدة، وعلى رأسها شركة “هواوي”.

ولا يقتصر التعاون في هذا المجال على تحديث شبكات الاتصالات فحسب، بل يمتد أيضا إلى إنشاء مراكز بيانات وطنية، وتطبيق حلول الحوسبة السحابية، وتطوير أنظمة الخدمات الحكومية الإلكترونية، ما يعزز من كفاءة عمل المؤسسات ويُسهل من عمليات الرقابة الإدارية والسياسية.

ويمنح هذا التوجه الرقمي الصين نفوذا إستراتيجيا جديدا، حيث تتحول التكنولوجيا إلى أداة تسمح لها بالتأثير على السياسات الداخلية للجزائر، وهو أمر يحمل في طياته أبعادا حساسة تتعلق بالسيادة الوطنية والخصوصية.

pp

وبالمقابل، فإن استثمار الجزائر في الحوكمة الرقمية يمثل فرصة غير مسبوقة لتحسين جودة الخدمات العامة وتحقيق رقمنة شاملة تدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالاعتماد على التكنولوجيا الصينية ليس مجرد خيار اقتصادي، بل إستراتيجية وطنية لتحويل البلاد إلى دولة حديثة قادرة على المنافسة في العصر الرقمي.

ومع ذلك، فإن العلاقة بهذه الحوكمة الرقمية ليست خالية من المخاطر، إذ إنّ تعمق التبعية للتكنولوجيا الصينية قد يثير مخاوف حول الاستقلالية التقنية، وتواجد شركات ذات أصول أجنبية تتحكم في بنى تحتية حساسة، وهو ما يتطلب ضبطا دقيقا من الحكومة الجزائرية لضمان حماية مصالحها الوطنية.

وتتعدد العوامل التي دفعت الشركات الصينية إلى تبني سياسة التوطين في الجزائر، منها التغيرات الداخلية في الصين التي شهدت ارتفاعا في تكاليف العمالة وتشددا في قوانين العمل، إضافة إلى حاجة الشركات إلى الحفاظ على تنافسيتها في الأسواق العالمية من خلال تقليل الاعتماد على الموارد البشرية الصينية في الخارج. كما أن السياسات الحكومية الصينية تشجع على تعزيز التوطين كأسلوب لتحسين قبول هذه الشركات في الأسواق الأجنبية وتقليل الاحتكاك مع المجتمعات المحلية.

السياسات الحكومية الصينية تشجع على تعزيز التوطين كأسلوب لتحسين قبول هذه الشركات في الأسواق الأجنبية وتقليل الاحتكاك مع المجتمعات المحلية

ومن جانب الجزائر، جاءت هذه الخطوة استجابة للضغوط المحلية والاجتماعية التي تطالب بالمزيد من دمج المواطنين في المشروعات الكبرى، وتوفير فرص عمل حقيقية تعزز من دور القطاع الخاص الوطني.

ولم يأت هذا التقارب الاقتصادي والتقني بين الصين والجزائر بمعزل عن التحولات السياسية والاجتماعية، فقد فرضت الأحداث مثل الحراك الشعبي الذي انطلق في 2019 على الشركات الصينية ضرورة إعادة تقييم مواقفها وإستراتيجياتها، لاسيما في ظل مطالب التغيير السياسي والاجتماعي التي شكلت تحديا للبيئة الاستثمارية.

وكانت قدرة الشركات الصينية على التكيف مع هذه التحولات مؤشرا على عمق شراكتها مع الجزائر، لكنها في الوقت ذاته أظهرت هشاشة بعض التوازنات، حيث إن اعتماد هذه الشركات على علاقات وثيقة مع السلطة السياسية قد يعرضها لمخاطر الانكشاف في أوقات الأزمات.

ومن هنا، يتضح أن العلاقة بين الجزائر والصين اليوم هي علاقة ديناميكية ومعقدة تتشابك فيها الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والتقنية والاجتماعية. ويشكل توطين الشركات الصينية جسرًا لزيادة النفوذ والتأثير، ولكنه أيضا يحمل تحديات تتعلق بالاستدامة الاقتصادية والاندماج الاجتماعي والسيادة الوطنية. وأما الحوكمة الرقمية، فهي البوابة الجديدة التي تمنح الصين أدوات متطورة للتأثير عبر التكنولوجيا، وتعزز من موقعها كطرف فاعل في مستقبل الجزائر السياسي والاقتصادي.

وفي النهاية، تبقى الشراكة الصينية – الجزائرية في مجال التوطين والحوكمة الرقمية نموذجا يعكس كيف يمكن أن تتطور العلاقات بين دولة نامية ذات موارد طبيعية غنية ودولة صاعدة ذات قدرة تقنية واقتصادية متزايدة.

وتتيح هذه الشراكة فرصا هائلة للتنمية والتحول، لكنها تتطلب إدارة حذرة وحكيمة لتجاوز العقبات وحماية المصالح الوطنية، بحيث لا تتحول هذه العلاقة إلى تبعية غير متكافئة، بل إلى تعاون مثمر يفتح أبواب المستقبل المشترك بين البلدين.

7