تاريخ قوات حفظ السلام في الشرق الأوسط لا يدعو إلى التفاؤل في غزة

لبنان وسيناء والعراق والجولان نماذج فاشلة للتدخل الدولي.
السبت 2025/10/25
نفس الأخطاء تؤدي الى نفس النتائج

التاريخ يثبت أن قوات حفظ السلام لم تكن ضمانة للاستقرار في المنطقة، بل مجرد استراحة مؤقتة بين جولات الصراع، وفي بعض الحالات قد تتحول إلى عنصر يسهّل استمرار النزاعات.

بيروت - لعقود، تراهن القوى الدولية على فكرة نشر قوات حفظ السلام في الشرق الأوسط كأداة لضمان الاستقرار، إلا أن التجارب السابقة أظهرت أن هذه القوات نادراً ما تمكنت من فرض الأمن أو تنفيذ مهمتها بفاعلية على الأرض.

ومن جنوب لبنان إلى سيناء، ومن العراق إلى الجولان، أظهرت الوقائع أن هذه القوات غالباً ما تتحول إلى أطراف مراقبة أكثر من كونها أدوات فعالة لضبط النزاعات.

وفي لبنان، على سبيل المثال، فشلت بعثة الأمم المتحدة (يونيفيل) في منع حزب الله من إعادة بناء ترسانته الصاروخية بعد حرب 2006، كما لم تنجح في الحد من توسيع نفوذ الحركة السياسي والعسكري.

وفي سيناء، لم تتمكن القوة متعددة الجنسيات من منع التسلل أو تهريب الأسلحة بين غزة وشبه الجزيرة على مدى أربعة عقود، رغم انتشارها المكثف، وهو ما يعكس ضعف التأثير الميداني لمثل هذه البعثات على أرض الواقع.

تاريخ قوات حفظ السلام في الشرق الأوسط يوضح أن نجاحها مرتبط بالاستعداد السياسي للأطراف المحلية، وهو ما يغيب في الحالة الفلسطينية

وتاريخياً، تظهر هذه التجارب أن انتشار قوات حفظ السلام غالباً ما يكون مصحوبا بحدود صارمة في تفويضها العملياتي، حيث تقتصر مهمتها على المراقبة أو تقديم الدعم اللوجستي بدلاً من التدخل المباشر في النزاعات المسلحة، مما يترك الفصائل المسلحة والمجموعات المحلية حرة في إعادة تنظيم نفسها أو تعزيز قوتها العسكرية دون عائق.

وهذا ما يثير تساؤلات جادة حول فاعلية أي خطة تهدف إلى نشر قوات دولية في غزة بعد الحرب الأخيرة.

وتعتمد خطة السلام التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تسعى إلى تثبيت وقف إطلاق النار وتهيئة مرحلة “إدارة انتقالية فلسطينية تكنوقراطية”، بشكل رئيسي على نشر قوات مراقبة أو حفظ سلام لضمان تطبيق الاتفاق.

ومع ذلك، تشير الخبرات السابقة إلى أن هذا النهج يواجه تحديات كبيرة. فغزة ليست منطقة نزاع تقليدية يمكن إدارتها عبر بعثة مراقبة أممية، بل هي بيئة سياسية معقدة تتسم بتعدد الفصائل، واختلاف الولاءات، وتداخل المصالح الإقليمية، إضافة إلى هشاشة مؤسساتية تجعل أي تفويض دولي عرضة للشلل منذ البداية.

ويؤكد خبراء حقوق الإنسان التابعون للأمم المتحدة أن أي تدخل في غزة يجب أن يكون مشروطاً بوجود إرادة سياسية من الأطراف المحلية، وهو ما يغيب حالياً. فغياب التوافق المحلي يجعل من أي بعثة دولية هدفاً لمناورات سياسية وفصائلية، ويحد من قدرتها على فرض أي التزام جاد على أطراف النزاع.

يونيفيل

ويشير الجنرال المتقاعد فايز الدويري، الخبير العسكري الأردني، إلى أن نشر القوات قد يواجه تحديات ميدانية معقدة، خاصة في ظل وجود فصائل مسلحة متعددة، مؤكداً على ضرورة التنسيق المحلي لضمان فعالية أي تدخل.

كما يحذر خبراء حقوق الإنسان من أن أي انتشار دون حماية دولية واضحة للقوافل الإنسانية والمدنيين قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع، ويجعل مهمة القوات الدولية أكثر هشاشة.

وتدرك حماس، التي خرجت من الحرب منهكة لكنها لم تُهزم، محدودية قدرة المجتمع الدولي على فرض سلطته، وهو ما يضع أي خطة دولية تحت اختبار صارم. فقد رفضت الحركة في البداية مبادرة ترامب التي تطالبها بنزع سلاحها، قبل أن تتراجع مرحلياً تحت ضغوط قطرية ومصرية مكثفة، في مؤشر واضح على أن قبولها للاتفاقات المرحلية يهدف بشكل رئيسي إلى إعادة التموضع السياسي وليس التخلي عن أدوات القوة.

ولا يعني قبولها المرحلي للاتفاق تسليم السلطة أو السلاح، بل يعكس سعيها لإعادة تنظيم نفسها ضمن “الشرعية الفلسطينية” تحت غطاء دولي، مع الحفاظ على بنيتها العسكرية وقدرتها على إعادة التموضع في المستقبل.

ومن منظور واشنطن، أي قوة مراقبة دولية لن تكون قادرة عملياً على نزع سلاح حماس أو منعها من إعادة بناء بنيتها العسكرية تحت الأرض. فالتجربة التاريخية ليونيفيل في لبنان تُظهر أن القوى الدولية غالباً ما تكون غير قادرة على مواجهة جماعات مسلحة لديها خبرة واسعة في التحايل على القيود الدولية. بل إن وجود هذه القوات قد يوفر غطاءً سياسيا إضافيا لحماس، يسمح لها بإعادة تنظيم صفوفها تحت مظلة دولية يصعب المساس بها، ما يعزز قدرتها على الاستمرار كلاعب مؤثر في المشهد الفلسطيني.

وأما إسرائيل، فتتوجس من فكرة نشر قوة دولية في غزة، إذ تخشى أن تتحول هذه القوة إلى حاجز أمام أي عملية عسكرية مستقبلية.

وترى تل أبيب أن الأمن لا يُفوّض إلى طرف ثالث، وأن اليد العسكرية يجب أن تبقى مطلقة في القطاع، بينما تُترك للقوات الدولية مهمة رمزية، تقتصر على مراقبة الممرات أو إدارة المساعدات الإنسانية.

وتضيف هذه المخاوف الإسرائيلية بعدا إضافيا لتعقيد أي عملية نشر دولية، حيث أن التنسيق بين إسرائيل والقوى الدولية سيكون حاسماً لتجنب أي تصعيد عسكري غير مرغوب فيه.

من جنوب لبنان إلى سيناء، ومن العراق إلى الجولان، أظهرت الوقائع أن قوات يونيفيل غالباً ما تتحول إلى أطراف مراقبة أكثر من كونها أدوات فعالة لضبط النزاعات

وفي المقابل، تواجه واشنطن صعوبة في إقناع حلفائها الأوروبيين والعرب بجدوى هذه الخطوة. فالدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، تخشى الانجرار إلى مستنقع أمني جديد في بيئة عدائية، بينما تتحفظ دول عربية رئيسية كالأردن ومصر على إرسال قواتها إلى غزة دون ضمانات واضحة بشأن المهام ومن يقودها.

ويشير المحلل السياسي الفلسطيني مؤمن رباني إلى أن أي تدخل دولي يجب أن يأخذ في الاعتبار التوازنات الإقليمية المعقدة والمصالح المتباينة للدول العربية الكبرى لضمان عدم تفاقم الأزمة، وهو ما يجعل من مهمة واشنطن صعبة للغاية على الصعيد السياسي والدبلوماسي.

ويوضح تاريخ قوات حفظ السلام في الشرق الأوسط أن نجاحها مرتبط بالاستعداد السياسي للأطراف المحلية، وهو ما يغيب في الحالة الفلسطينية.
وتعتبر حماس سلاحها جزءاً من هويتها ومفتاحاً لبقائها التنظيمي، وإسرائيل ترى في أي قوة دولية بديلاً غير مضمون لأمنها المباشر، بينما السلطة الفلسطينية تعجز عن فرض سيطرتها دون دعم أمني خارجي.

كما يحذر خبراء الأمم المتحدة من أن حماية المدنيين وتوفير المساعدات الإنسانية يجب أن يكونا الأولوية القصوى، إذ قد تؤدي أي هجمات على القوافل الإنسانية إلى أزمة غير مسبوقة في القطاع، مما يعقد مهمة أي بعثة دولية ويزيد من المخاطر على القوات المنتشرة.

وعلى هذا الأساس، يبدو أي وجود دولي في غزة بعد الحرب أقرب إلى “قوة رمزية”، تهدف لطمأنة الرأي العام الغربي أكثر من ضمان أمن فعلي على الأرض.

ومع غياب الثقة بين واشنطن وحماس، وتضارب أولويات إسرائيل والدول العربية، تبدو احتمالات نجاح الخطة الأميركية محدودة للغاية. فالتحديات الأمنية، والسياسية، والإقليمية، إلى جانب التجارب التاريخية الفاشلة، تجعل من أي تدخل دولي في غزة مهمة صعبة ومعقدة للغاية، تتطلب أكثر من مجرد قوات مراقبة، بل تنسيقاً دقيقاً ومصداقية دولية لا يمكن تحقيقها بسهولة.

3