بورصة شراء الأصوات تنشط في العراق مع احتدام الحملة الانتخابية
رهان الشخصيات والأحزاب والفصائل المسلحة في العراق من خوضها الانتخابات البرلمانية هو الحفاظ على مواقعها في السلطة وحماية مكاسبها الكبيرة المتأتية لها منها، ولذلك تلقي بكل ثقلها السياسي والمالي وحتى الأمني وراء تحقيق الهدف بغض النظر عن مدى مشروعية الوسائل المستخدمة في ذلك من عدمها.
بغداد - يعتبر استخدام المال والنفوذ في الانتخابات العراقية من الحقائق المستقرة والواقع المسلّم به، حيث يعد ذلك من العوامل الحاسمة في تحديد النتائج وما سيترتّب عليها لاحقا من تشكيل لأركان السلطة وتوجيه لسياسات الدولة.
وعلى الرغم من وجود قوانين واضحة وإجراءات صارمة تمنع نظريا توظيف المال والنفوذ السياسي والديني والعشائري والوظيفي في الانتخابات، إلاّ أن الشخصيات المتنفذة والقوى والأحزاب الكبيرة لا تعجز عن إيجاد وسائل للالتفاف على القوانين وتجاوزها مستفيدة من كونها ممسكة أصلا بالسلطة ومشرفة بالنتيجة على تطبيق القانون ومعاقبة المخالفين.
وتنطوي الانتخابات بالنسبة إلى تلك الشخصيات على رهانات مصيرية تتمثّل في البقاء في السلطة والحفاظ على المكاسب والامتيازات المعنوية والمادية التي تتأتى لها منها، وهي أهداف يستحقّ تحقيقها “التضحية” بجزء من الأموال التي هي أصلا متأتية من المشاركة في السلطة التي تتيح لأصحابها الوصول إلى أموال الدولة ونهبها.
وتتحوّل الانتخابات العراقية، بفعل هذا السلوك الذي لم يغب عن مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي جرت في العراق خلال العقدين الماضيين، إلى ما يشبه العملية التجارية التي توظّف فيها أموال لتحقيق المزيد من الأرباح. ويفسّر هذا العامل صعوبة حدوث أي تغييرات سياسية ذات أهمية في العراق باستخدام الانتخابات على الرغم من مزاج الامتعاض الشعبي من الطبقة الحاكمة وطريقتها في إدارة البلاد.
وحوّل نفوذ المال والسياسة وحتى السلاح في بعض الأحيان منظومة الحكم في العراق إلى ما يشبه النادي المغلق الذي قد يشهد تغييرات جزئية في تركيبته الداخلية لكنّه صعب الاقتحام من أي قوى جديدة ترفع لواء التغيير لكنّها تخوض في النهاية معركة انتخابية غير متكافئة تميل الكفة فيها للمال والنفوذ على حساب الأفكار والبرامج.
ويتم استخدام المال في الانتخابات العراقية بعدّة طرق أشهرها شراء أصوات الناخبين بالدفع لهم للتصويت لهذا المرشّح أو ذاك أو شراء بطاقاتهم الانتخابية بشكل مباشر.
وعلى الرغم من تأكيدات المفوضية العليا المشرفة على الانتخابات في العراق لاستحالة استخدام البطاقة في التصويت من قبل أي شخص غير صاحبها الأصلي، فإنّ شهادات ميدانية وتقارير حقوقية وإعلامية أكدت افتتاح “سوق البيع والشراء” بالفعل منذ أسابيع حتى أن بعض تلك التقارير حدّد سعر البطاقة الواحدة المعتمد حاليا بما بين تسعة وثلاثين ومئة وخمسين دولارا.
وقالت فيان دخيل، عضو البرلمان العراقي والمرشحة للانتخابات القادمة عن محافظة نينوى، إنّه يجري تداول بطاقات الناخبين في المحافظة بالسعر المذكور وأحيانا بسعر أعلى تجاوز الثلاثمئة دولار.
◄ استخدام المال والنفوذ يمنع حدوث أي تغييرات سياسية ذات أهمية في العراق باستخدام الانتخابات
وأوضحت دخيل في تصريحات لشبكة رووداو الإعلامية أنّ عمليات بيع الأصوات تجري سرّا “حيث يُجبر الناخب على إظهار قسيمة التصويت الخاصة به أو التقاط صورة لورقة اقتراعه، وفي بعض الأحيان يُقسم (بعد التصويت) بأنه صوّت لصالح جهة معينة ومرشح محدد.” وجاء أيضا في تقرير الشبكة عن شراء البطاقات والأصوات أنّه يوجد أسلوب آخر يستخدم في العملية ويتمثّل في تقليل أصوات الطرف المنافس وحرقها، حيث تشتري الأطراف السياسية بطاقات الناخبين البايومترية لمنافسيها وتتلفها حتى لا تكون صالحة للتصويت.
كما يتم أيضا إبرام صفقات بين أطراف سياسية ومرشحين لشراء الأصوات، وهو أسلوب يُعتمد بحسب فيان دخيل حتى بين مرشحي القائمة الواحدة. وفي السياق ذاته قال هوكر جتو، منسق شبكة شمس لمراقبة الانتخابات، إنّ عمليات بيع وشراء بطاقات الناخبين موجودة وشائعة أيضا في مناطق جنوب ووسط العراق.
وتمثّل تلك المناطق المعاقل الرئيسية لأبرز الأحزاب والفصائل الحاكمة في العراق والتي تتصارع بضراوة في ما بينها على الفوز بأصوات العشائر التي تتحوّل في مثل هذه المناسبات الانتخابية إلى موضع تركيز شديد من قبل تلك القوى التي تغدق العطاءات والهدايا لشيوخها وتسرف في الوعود لأبنائها بالتوظيف في هياكل الدولة.
وتتسع “سوق” شراء الأصوات الانتخابية لتشمل الجامعات وطلبتها وأطرها حيث أظهر تسريب صوتي انتشر في وقت سابق عبر مواقع التواصل الاجتماعي أستاذا في جامعة أهلية تعود ملكيتها إلى قيادي بارز في الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم وهو يعرض على الطلبة منحهم درجات دراسية وتسهيلات مالية في مقابل تصويتهم مع عائلاتهم لمصلحة ذلك القيادي.
وترغب الأحزاب والفصائل العراقية، ومعظمها ينتمي إلى المحور الإيراني أو مقرّب منه، من وراء خوضها للانتخابات في تجديد هيمنتها على مقاليد الحكم بعد التراجعات التي شهدها نفوذ ذلك المحور والدولة القائدة له في سوريا المجاورة بسقوط نظام بشار الأسد وأيضا في لبنان بارتخاء قبضة حزب الله على السلطة هناك، لكن قيادات بعض تلك القوى تبدو معنية أيضا بالحفاظ على حدّ أدنى من شرعية النظام ومن جماهيريته المتآكلة بسبب عدّة عوامل من بينها الضرر الذي ألحقه التزوير بمصداقية الانتخابات.
وعلى هذه الخلفية صدرت عن عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة والعضو في الإطار التنسيقي الحاكم، دعوة إلى تأسيس “ميثاقِ شرف وطنيِ تتعهد به جميع الكتل السياسية بعدم استخدام المال كسلاح انتخابي، وأن تُوضع المصلحةُ العليا فوق كل اعتبار،” إذ “من المعيب”، بحسب تعبيره، “أن تكون هناك سوق وبورصة لشراء المرشحين والناخبين معا، فهذا سحت ومال حرام وخيانة للوطن والشعب.”
وغالبا ما تفتقر تحذيرات الكثير من قادة القوى السياسية المشاركة في الانتخابات العراقية إلى المصداقية، إذ أنّ معظم تلك القوى لا يخرج من دائرة الاتهامات باستخدام وسائل جانبية غير مشروعة للحصول على نتائج إيجابية عليها تتوقف قدرة الكثير من قادة الأحزاب والفصائل المسلحة على الحفاظ على امتيازاتهم السياسية وما وراءها من مكاسب مادية.
وتبدو مهمة الحفاظ على تلك المكاسب وتدعيمها من خلال الدورة الانتخابية الجديدة أكثر تعقيدا بسبب المتغيرات المذكورة وكثرة المتنافسين في انتخابات نوفمبر القادم وتراجع شعبية القوى التي تضررت سمعتها خلال مشاركتها بشكل رئيسي في السلطة بسبب الفساد والعنف والفشل الاقتصادي والاجتماعي والتنموي والخدمي للدولة. ومن هذا المنطلق يكون التعويل في الانتخابات على الوسائل الجانبية غير المشروعة أمرا مؤكّدا.