"بحر سارجاسو الواسع".. رحلة في الذاكرة تكشف بنية الاستعمار

جان ريس ترد على الأدب الذي يرى العالم كله أبيض وأوروبيّا.
الثلاثاء 2025/09/16
كشف لخفايا الاستعمار في الماضي والحاضر

روايات كثيرة كتبت عن الاستعمار والعبودية ومآسي البشر، لكن أغلبها جعل من الرجل الأبيض محور الإنسانية وفيه يختصر الفكر والتحضر والقوة والثقافة وهلم جرا. وهذا ما سعى كتاب آخرون إلى تجاوزه وتقديم الروايات بأصوات مختلفة من زوايا أخرى، مثل جان ريس في روايتها "بحر سارجاسو الواسع".

الكاتبة الدومينيكية – البريطانية جان ريس (1890- 1979) وُلدت في جزيرة دومينيكا بالكاريبي، وهي ابنة خليط ثقافي وعرقي عاش دومًا على الهامش، بعيدًا عن صورة “المركز” الأوروبي. لكن مسيرتها الأدبية مليئة بالنضال والمقاومة، إذ كتبت عن الغربة، عن المرأة المهمشة، وعن الهوية الممزقة بين الكاريبي وبريطانيا.

نشرت عددا من الروايات المهمة ثم دخلت في عزلة طويلة، لتعود بقوة عبر روايتها الأهم “بحر سارجاسو الواسع” (1966)، التي منحتها التكريم النقدي والاعتراف الأدبي على المستوى البريطاني والأوروبي، ورسخت حضورها كنموذج وكاتبة فضحت بشائع الاستعمار وقبحه بالكتابة، حيث أعادت قراءة العالم من منظور مغاير.

فضح بنية الاستعمار

ما يميز رواية جان ريس حقًا هو أسلوبها الشعري المتشظي وتعدد الأصوات الذي يحاكي تمزق الهوية الكريولية
ما يميز رواية جان ريس حقًا هو أسلوبها الشعري المتشظي وتعدد الأصوات الذي يحاكي تمزق الهوية الكريولية

هذه الرواية لم تكتف بكونها إعادة كتابة لنص شارلوت برونتي جين آير، بل هي أيضًا احتجاج عميق على الأدب الذي احتكر صورة الإنسان وحوّله إلى كائن أبيض أوروبي.

لقد فضحت ريس آليات هذا الأدب؛ فالكثير من الكتّاب الأوروبيين قدّموا العالم كفضاء أبيض نقي، بعضهم برّر العبودية بطرق مباشرة، وآخرون مرّروها بنعومة عبر تصوير أوروبا مركزًا للفضيلة والتحضر. حتى بعض الكتّاب الكريوليين وقعوا في فخ تمجيد المستعمر وجلد الذات من أجل الجوائز والاعتراف.

هنا يأتي صوت جان ريس ككتابة حرة، تستعيد كرامة المظلومين، تمنحهم أصواتهم وأجسادهم وأحلامهم، وتعيد قراءة العلاقة بين المستعمِر المغتصِب والمستعمَر المقهور.

في “بحر سارجاسو الواسع”، يصبح سؤال الحرية محوريًا: هل تنتهي العبودية بمجرد إلغاء قانون الرق؟ ريس تجيب بالنفي، لأن الاستعمار يستمر بأشكال أخرى، في الذهن والسرد والخيال. الخضوع والتنازلات لا يصنعان حرية، بل يورثان عبودية جديدة، حيث يظل المستعمر ينظر إلى نفسه كواهب الحرية وصاحب القداسة.

هذه الرواية تفضح تلك المسافة بين النصوص التي كتبت بروح أوروبية مقدسة، وبين واقع المهمشين الذين لا يُرون ولا يُسمع صوتهم.

إذن القارئ لهذه الرواية يجد أن ريس لم تكن مجرد كاتبة أعادت رواية لقصة بيرثا ماسون، الزوجة المجنونة في علية ثورنفيلد، لكننا مع فعل مقاومة أدبية، وقدّمت بديلًا إنسانيًا لما بعد الاستعمار، حيث يُقرأ العالم لا كفضاء أبيض صرف، بل كشبكة من الأصوات والألوان والتجارب. “بحر سارجاسو الواسع” نص يقدس الإنسان بصفته إنسانًا، لا بلونه أو أصله، إنها دعت منذ وقت مبكر إلى ضرورة أن نعيد التفكير في العدالة الأدبية والإنسانية.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء. الأول: طفولة أنطوانيت كوزواي في جامايكا بعد إلغاء العبودية، عزلتها، ونبذ المجتمع لها ولأسرتها، وصولًا إلى انهيار الأم واحتراق المزرعة. الثاني: زواجها من الإنجليزي (روتشستر غير المسمى)، الذي يعاملها بريبة ويعيد تسميتها “بيرثا”، فتفقد صوتها واسمها. العلاقة تتحول إلى ساحة صراع بين هوية مرفوضة ورغبة في السيطرة. أما الجزء الثالث فيدور في إنجلترا، حيث تُحبس أنطوانيت في علية ثورنفيلد. وعيها يتفتت بين الذكريات والخيال، وتنتهي الرواية بإشعال النار، إيحاءً بالانتقال إلى مصيرها.

اقتبست الرواية في السينما سنة 1993 في فيلم من إخراج جون دويغان، لكنه ركّز على البعد الإيروتيكي، مما أثار الجدل وأضعف العمق السياسي والاجتماعي للرواية.

نسخة BBC 2006 كانت أكثر وفاءً للنص لكنها لم تبلغ قوة لغته. ما يميز الرواية حقًا هو أسلوبها الشعري المتشظي وتعدد الأصوات، الذي يحاكي تمزق الهوية الكريولية. إنها ليست فقط نقدًا لخطاب الاستعمار، بل أيضًا تجربة جمالية حداثية، تجعل من القراءة رحلة في الذاكرة، في اللغة، وفي الحافة بين العقل والجنون.

تختلف الشخصيات في “بحر سارجاسو الواسع” عن جين إير. عندما نقرأ رواية شارلوت برونتي جين إير (1847)، لا نجد أمامنا إلا عالمًا يراه السرد من منظور واحد: الأبيض الأوروبي. كل الشخصيات محكومة بمعايير الطبقة الفيكتورية، حيث يُعرّف الإنسان من خلال طبقته وجنسه ولونه. لكن رواية “بحر سارجاسو الواسع” لجان ريس، تأتي كضربة مضادة، إذ تنقلنا إلى فضاء الكاريبي بعد إلغاء العبودية، حيث الشخصيات لم تكن أدوات في سرد أوروبي، بل كائنات حية ومفعمة بالتناقضات، جروحها وأحلامها ولغتها الخاصة.

"بحر سارجاسو الواسع" شهادة على أن الكتابة يمكن أن تعيد الاعتبار للمظلومين وتفتح مسارًا لعدالة أدبية وإنسانية

أنطوانيت كوزواي، البطلة، ليست مجنونة بلا ماضٍ كما صورتها برونتي، بل فتاة تحلم بالحب والحياة الآمنة، تخضع أحيانًا وتنتظر السعادة من زواجها من الإنجليزي، لكنه يمنحها خيانة ويغتصبها ويسلبها المال والاسم. المتأمل للنص سيشعر بأن أنطوانيت هنا استعارة لجسد المستعمرات: يُستغل، يُنهب، ويُسجن في علية باردة بعيدة عن دفء الشمس.

الزوج الإنجليزي (روتشستر) هو صورة للمستعمر الذي يدخل أرضًا غريبة، يُكثر الوعود ويكون ناعمًا ثم يسيطر على كل شيء ويتعامل مع شعوب هذه الأرض كملكية، ينهب الثروات، يعد بالحب أو الحرية ثم يسجن ويخون. عندما نحلل بتمعن علاقته الجسدية بأنطوانيت سنجدها مشحونة بالعنف والسيطرة، تتحول من مساحة أمل إلى مساحة اغتصاب، فتغدو العلاقة استعارة مباشرة لقبح الاستعمار.

الأم، أنيت، شخصية مأساوية تصور هشاشة المرأة في مواجهة مجتمع لا يعترف بها. مصيرها الجنون المبكر يضاعف ظلال المستقبل الذي ينتظر ابنتها.

كريستوفين، المربية القادمة من المارتينيك، صوت الحكمة البديل، تمثل معرفة محلية (أوبياه/ السحر) تتحدى منطق المستعمر. حضورها القوي يذكّر القارئ بأن هناك دائمًا لغة أخرى، سردًا آخر، لا يخضع لسلطة أوروبا.

الشخصيات الثانوية، مثل تيا الصديقة الخائنة، ودانيال كوزواي، والسيد ماسون، كلها شكلت شبكات استعارية: الخيانة، الطمع، أو العجز عن رؤية الحقيقة، كل شخصية أسهمت في تكوين صورة مركبة للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.

كل هذه العناصر تجعل ريس متفردة في موضوعها وكذلك قوة تقنياتها الكتابية، حيث نلمس أسلوبها الشعري المتشظي، الذي يحاكي تمزق الذات والهويات الممزقة بين العرق والجنس والمكان.

الجمل قصيرة، متقطعة، أشبه بأنفاس متلاحقة. الأصوات تتناوب، مما يخلق تعددية سردية تقاوم سلطة الصوت الواحد. الصور الحسية قوية (الروائح، الألوان، حرارة الغابة، برودة القصر). اللغة الجسدية كثيفة، تُظهر كيف يصبح الجسد ساحة صراع بين الحب والعنف، بين الأمل والاغتصاب.

الرواية اقتبست في السينما سنة 1993 في فيلم من إخراج جون دويغان، لكنه ركّز على البعد الإيروتيكي، مما أثار الجدل وأضعف العمق السياسي والاجتماعي للرواية

بهذا، نستنتج أن ريس سعت إلى أن تعيد الاعتبار لشخصية نسائية صمتت طويلًا، والأهم من ذلك أن تعيد كذلك الاعتبار لملايين المهمشين الذين محاهم الأدب الأوروبي من الوجود، ورسم صورة لعالم يُرى فقط بعين الأبيض المستعمر.

“بحر سارجاسو الواسع” كانت أكبر من مجرد رواية للرد أدبيا على الكاتبة البريطانية شارلوت برونتي، والأجمل أنها خلقت نصًا شعريًا مقاومًا، يُعيد الاعتراف بالإنسان -أيًّا كان لونه أو أصله- ويحوّل مأساة الفرد إلى استعارة كبرى لنهب الاستعمار وخداعه.

قراءة الرواية تعني مواجهة نص أدبي لم تكتف كاتبته بسرد حكاية امرأة منسية، لكنه ذهب أبعد ليكشف بنية الاستعمار في الماضي والحاضر، ويستشرف المستقبل.

كتبت جان ريس روايتها بلغة مشظّاة، متوترة، لكنها شديدة الكثافة، نزعت الأقنعة عن خطاب طالما تزيّن بمفردات مثل “الحرية” و”الإنسانية” و”الاستقلال”، بينما ظل يكرّس العبودية بشكل جديد.

 لقد كتب الكثير من الأدباء الأوروبيين والأميركيين برؤية إنسانية محدودة ومنقوصة، تصور العالم أبيض بالكامل، أو تابعًا بالضرورة لمركزية الرجل الأبيض الذي يقرر مصائر الآخرين، ويعيد تعريف كل المفاهيم الأخلاقية بما يخدم تفوقه وهيمنته. لقد منحتنا جان ريس مواجهة هذا الزيف، خلقت كتابة تفضح آليات السيطرة الثقافية والجسدية معًا.

في هذه الرواية نتعايش مع الطبيعة الاستوائية ككيان نابض يختزن الحرية والتهديد، العزلة والجاذبية. الألوان والروائح والمطر والأشجار تتداخل مع وعي أنطوانيت، وتصبح جزءًا من جسدها الممزق. هنا يتبدى الجسد الأنثوي كجسد مقدس متصل بالأرض والطبيعة، أنطوانيت هي امرأة من لحم ودم وهي استعارة لكيان مهدور ومسلوب، يعكس مصير الأرض الكاريبية نفسها، التي اغتُصبت ونهبت مثلما اغتُصبت هذه الشخصية وخُدش جسدها وكرامتها.

فرصة للتأمل

pop

حملت النهاية ذروة التوتر، في علية ثورنفيلد الباردة، وبعد أن سُلِب الاسم والصوت والجسد ككل شيء، تستعيد أنطوانيت ذاتها عبر النار، هنا الجنون يتحول إلى فعل مقاومة؛ إشعال النار ليس انتحارًا نتيجة الضعف بل القوة من أجل خلق تحرير رمزي من سجن لا يحتمل.

أي إنها استعادت لحظة تقرير المصير، حتى لو كان الثمن الدمار. بهذه اللمسة الأخيرة، ربطت ريس روايتها بمصير “بيرثا” في جين إير، لكنها قلبت الصورة: المجنونة لم تكن مجرد عائق أمام سعادة البطلة الأوروبية، هي إنسانة كاملة اختير لها الصمت، حتى تكلمت أخيرًا عبر الحريق. من هنا تأتي أهمية قراءة جان ريس اليوم، فهي تكشف كيف يستمر الاستعمار في أشكال جديدة، وتمنح أصوات المهمشين فرصة للظهور.

 “بحر سارجاسو الواسع” شهادة على أن الكتابة يمكن أن تعيد الاعتبار للمظلومين، أن تفتح مسارًا لعدالة أدبية وإنسانية. قراءة هذه الرواية اليوم هي تأمل في حاضر لم يبرأ بعد من إرث الاستعمار، وتطلع إلى مستقبل أكثر مساواة، حيث تُقرأ الإنسانية كاملة لا مجتزأة.

وتتوفر رواية “بحر سارجاسو الواسع” في ترجمة عربية، وقد أتاحت للقارئ العربي الاطلاع على نص مهم في الأدب ما بعد الكولونيالي. مع ذلك، هناك بعض الملاحظات: أولاً، الترجمة أطول من الأصل بحوالي مئة صفحة بسبب أسلوب الإطالة والشرح. ثانيًا، فقدت الترجمة كثيرًا من التكثيف الشعري واللغة المتشظية التي تميز أسلوب جان ريس. ثالثًا، أحيانًا تميل إلى الإفراط في التفسير ما يضعف الإيقاع المتوتر للنص. رابعًا، النسخة العربية تظل وفية للأحداث لكنها لا تنقل دائمًا الموسيقى الداخلية ولا الفراغات الدلالية.

ومن إيجابية هذه الترجمة أنها تمنح فكرة عامة عن الرواية، لكنها أقل جمالية، ولمن يريد التذوق الفني أو الدراسة النقدية فالأفضل الاعتماد على النسخة الإنجليزية، مع الانتباه لوجود نسخ مختصرة وغير مكتملة.

13