المخيمات الكردية… قنابل مؤجلة شمال شرق سوريا

الوضع في المخيمات قد يشهد انهيارا أمنيا يقود إلى تمرد داخلي أو موجات فرار جماعية.
الأربعاء 2025/09/17
صداع مزمن

باريس - أعادت فرنسا الثلاثاء ثلاث نساء وعشرة أطفال من مخيمات احتجاز عائلات فلول تنظيم داعش شمال شرق سوريا لتسلط الضوء على ملف شديد التعقيد يتجاوز باريس إلى مجمل القارة الأوروبية.

وألقت هذه الخطوة، الأولى من نوعها منذ عامين، الضوء من جديد على واقع المخيمات الكردية التي لم تعد مجرد أماكن احتجاز مؤقتة، وإنما قنابل مؤجلة تجمع بين أزمات إنسانية وأخطار أمنية متشابكة قد تتجاوز حدود المنطقة لتصيب العالم كله.

وفي شمال شرق سوريا تتحمل الإدارة الذاتية الكردية عبئا ثقيلا يتمثل في الإشراف على مخيمات كبرى مثل الهول وروج، اللذين يضمان عشرات الآلاف من النساء والأطفال ومعظمهم من عائلات مقاتلي تنظيم داعش.

ويضم مخيم الهول وحده أكثر من خمسين ألف شخص من جنسيات مختلفة، فيما يحتضن مخيم روج مئات النساء والأطفال، بينهم أكثر من مئة طفل فرنسي.

وتعيش هذه المخيمات تحت وطأة هشاشة أمنية خانقة، إذ تسجل فيها حوادث عنف داخلي متكررة ومحاولات فرار وشبكات تجنيد سرية تعمل على إعادة إحياء فكر التنظيم.

فرنسا أمام خيارين أحلاهما مر: إما إعادة الرعايا ودمج الأطفال في بيئات آمنة، وإما ترك المخيمات تتحول إلى مصانع جديدة للتطرف

وقد حذر المسؤولون الأكراد مرارا من أن استمرار هذا الوضع يفتح الباب أمام تهديدات لا يمكن السيطرة عليها على المدى الطويل.

ووجدت أوروبا نفسها في مواجهة هذا الملف بين مقاربات متباينة، حيث اختارت ألمانيا وبلجيكا وهولندا إعادة أعداد من رعاياها انطلاقا من قناعة بأن التعامل مع المشكلة داخل حدودها أكثر أمانا من تركها مفتوحة في بيئة مضطربة، بينما تبنّت فرنسا نهجا مترددا وانتقائيا أعاد منذ عام 2019 نحو 179 طفلا و60 امرأة، قبل أن تجمّد عمليات الإعادة لعامين كاملين ثم تستأنفها مؤخرا بوتيرة محدودة.

ويعكس هذا التردد ازدواجية واضحة بين خشية باريس من عودة النساء باعتبارهن تهديدا محتملا، وبين إدراكها أن الأطفال ضحايا لا ذنب لهم.

ومع ذلك فإن استمرار وجود المئات من الفرنسيين، خصوصا الأطفال، في ظروف قاسية داخل المخيمات جعل فرنسا عرضة لضغوط حقوقية ودولية متصاعدة.

وقد تعرضت باريس لانتقادات واسعة بسبب بطئها في التحرك، إذ أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان رفضها إعادة بعض النساء واعتبرت ذلك انتهاكا لحقهن في الحماية، كما رأت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب أن المماطلة الفرنسية تتعارض مع التزاماتها الدولية.

وإلى جانب ذلك، حذرت منظمات حقوقية من أن الأطفال الذين يُتركون وسط الحرمان والمرض والخطر الأمني مهددون بمستقبل مظلم، وقد يشكلون مصدر تهديد لمجتمعاتهم الأصلية في حال تركهم على هذا الحال.

وتزداد خطورة هذه المخيمات كونها بيئة خصبة لإعادة إنتاج التطرف. فغياب التعليم المنظم والرعاية النفسية يترك فراغا كبيرا في حياة الأطفال، بينما تفرض بعض النساء الأكثر تشددا أنماطا من الانضباط “الشرعي” على المقيمين، في الوقت الذي تنشط فيه شبكات تهريب تعمل على تأمين محاولات فرار باتجاه مناطق أخرى.

المسؤولون الأكراد حذروا مرارا من أن استمرار هذا الوضع يفتح الباب أمام تهديدات لا يمكن السيطرة عليها على المدى الطويل

وهكذا تتحول هذه المخيمات إلى قنابل صامتة، قد تنفجر بانهيار أمني داخلي أو هروب جماعي غير منضبط أو بروز جيل جديد مشبع بأفكار التنظيم.

وبالنسبة لفرنسا، تبقى القضية معقدة للغاية. فالإبقاء على النساء والأطفال في سوريا قد يجنّبها مخاطر مباشرة، لكنه ينطوي على تكلفة أخلاقية وقانونية عالية فضلا عن احتمال خلق تهديد أكبر في المستقبل، بينما إعادتهم تعني خوض معارك قضائية وأمنية طويلة لكنها تسمح للدولة بفرض السيطرة على الملف داخل مؤسساتها.

ويجد هذا التردد الفرنسي تفسيره أيضا في الذاكرة الجماعية لهجمات 2015 التي نفذها مقاتلون مرتبطون بتنظيم الدولة الإسلامية، والتي جعلت الرأي العام أكثر حساسية تجاه أي خطوة قد يُنظر إليها كخطر على الأمن الداخلي.

وفي ظل هذا المأزق تبدو السيناريوهات المستقبلية مفتوحة على أكثر من احتمال. فقد يشهد الوضع انهيارا أمنيا في المخيمات يقود إلى تمرد داخلي أو موجات فرار جماعية، وقد ينضج حل دولي منظم يقوم على تعاون أوروبي ودولي لتفكيك هذه المخيمات وإعادة الرعايا إلى بلدانهم، وهو السيناريو الأكثر عقلانية لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، كما يمكن أن يستمر الوضع الراهن بما يحمله من تهديد مؤجل ينتظر لحظة الانفجار.

وتحولت المخيمات الكردية شمال سوريا إلى معضلة إقليمية ودولية تتجاوز قدرات الأكراد وحدهم وتمس الأمن الأوروبي بصورة مباشرة.

وكل يوم يمر دون حلول جذرية يضاعف احتمالات الانفجار. فرنسا ومعها بقية أوروبا أمام خيارين أحلاهما مر: إما مواجهة الملف بجرأة عبر إعادة الرعايا ومحاسبة المتورطين ودمج الأطفال في بيئات آمنة، وإما ترك هذه المخيمات تتحول إلى مصانع جديدة للتطرف. وفي كلا الخيارين الثمن باهظ، غير أن التأجيل يظل الخيار الأخطر على الإطلاق.