الفرات يتحول إلى برك راكدة

بلاد الرافدين بلا ماء.. ملايين العراقيين في مواجهة العطش والتلوث.
الخميس 2025/09/11
نهر الحضارات يختنق

يشهد نهر الفرات في العراق تراجعًا غير مسبوق في منسوب المياه، ما أدى إلى تفاقم التلوث وانتشار الطحالب والنباتات الغازية، وسط أزمة جفاف تُعد الأسوأ في تاريخ البلاد الحديث. وتحذر السلطات من تداعيات بيئية وصحية خطيرة، داعية إلى تعاون إقليمي لحماية الموارد المائية وضمان استدامتها.

بغداد ـ في مشهد يعكس حجم التحديات البيئية والمائية التي تواجه العراق، أعلنت السلطات العراقية وخبراء مختصون أن نهر الفرات يشهد في الأسابيع الأخيرة تراجعًا غير مسبوق في منسوب المياه، وصف بأنه “الأدنى منذ عقود”، في وقت تعاني فيه البلاد من جفاف حاد يُعد الأسوأ في تاريخها الحديث.

هذا الانخفاض الحاد في تدفق المياه، لاسيما في المناطق الجنوبية من البلاد، أثار قلقًا واسعًا بين الجهات الرسمية والبيئية، لما له من تداعيات مباشرة على جودة المياه وتفاقم التلوث وانتشار الطحالب والنباتات الغازية التي تهدد بانسداد المجاري المائية وتعطيل النظام البيئي للنهر.

العراق، الذي يبلغ عدد سكانه أكثر من 46 مليون نسمة، يعاني منذ سنوات من موجات جفاف متكررة، وارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة، وتراجع كبير في معدلات الأمطار. هذه العوامل، إلى جانب التغيرات المناخية العالمية، ساهمت في تعميق أزمة المياه في البلاد، التي تعتمد بشكل رئيسي على نهري دجلة والفرات كمصدرين أساسيين للمياه العذبة.

الانخفاض الحاد في تدفق المياه يساهم في تفاقم التلوث، وانتشار الطحالب والنباتات الغازية وتعطيل النظام البيئي للنهر

لكن الأزمة لا تقتصر على العوامل الطبيعية فحسب، إذ تندد الحكومة العراقية بشكل متكرر بإقامة تركيا وإيران المجاورتين سدودًا ضخمة على المسطحات المائية المشتركة، ما يؤدي إلى تقليص كميات المياه المتدفقة إلى الأراضي العراقية. ويُتهم البلدان بأنهما يقللان بشكل كبير من تدفق نهري دجلة والفرات، اللذين لطالما شكّلا شريان الحياة للمنطقة منذ آلاف السنين.

وقال الأستاذ في جامعة الكوفة، حسن الخطيب، إن نهر الفرات سجل خلال الأسابيع الأخيرة “أدنى مستوياته منذ عقود”، مشيرًا إلى أن جريانه تراجع بشكل كبير، خصوصًا في المنطقة الجنوبية. وأضاف أن هذا التراجع “يفاقم أزمة التلوث ويربك النظام الحيوي المائي في النهر،” مشددًا على أن انتشار الطحالب بكثافة يشكل خطرًا على الحياة المائية، إلى جانب التأثير المتزايد لنبتة “زهرة النيل” الغازية.

من جهته، نبّه المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، إلى أن العراق “لديه اليوم أقل خزين مائي في تاريخه”، موضحًا أن البلاد تتلقى “أقل من 35 في المئة من الحصة المائية التي يُفترض أن تستلمها” من نهري دجلة والفرات. هذا النقص الحاد في الموارد المائية دفع السلطات إلى إطلاق كميات إضافية من المياه من السدود، تفوق ما تتلقاه البلاد، في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من التدفق المائي في الأنهار.

ووفقًا للبيانات الرسمية، تراجع الاحتياطي المائي في السدود والخزانات إلى أقل من 8 في المئة من طاقتها التخزينية، حيث انخفض من نحو 10 مليارات متر مكعب في نهاية مايو إلى 8 مليارات متر مكعب فقط في مطلع سبتمبر. ويؤكد الخطيب أن إطلاق المياه من الاحتياطيات القديمة لتغذية النهر ساهم في انتشار الطحالب، التي تمتص الأكسجين من الماء، ما يعرض الحياة المائية للخطر ويهدد بانقراض أنواع متعددة من الكائنات الحية.

وحذّرت وزارة البيئة العراقية الأحد من أن انخفاض منسوب الفرات في محافظة كربلاء قد يؤدي إلى تفاقم التلوث البكتيري في المياه. وفي محافظة النجف المجاورة، أكد مدير دائرة البيئة، جمال عبد زيد، أن جودة “المياه الخام الموجودة في نهر الفرات انخفضت بشكل كبير،” ما يثير مخاوف من تأثيرات صحية على السكان الذين يعتمدون على هذه المياه في الشرب والزراعة.

برك راكدة

وفي بحر النجف، وثّق مصور وكالة فرانس برس تحول البحيرة التي كانت خصبة في السابق إلى برك راكدة موزعة في أنحاء الحوض، في مشهد يعكس التدهور البيئي الحاصل. أما في مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، فقد شوهدت أزهار أرجوانية تُعرف باسم “زهرة النيل” تطفو على سطح المياه وتتجذّر في نهر الفرات، وهي نبتة غازية انتشرت في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي.

وتُعد “زهرة النيل” من أخطر النباتات الغازية، إذ تمتص كل واحدة منها ما يصل إلى خمسة لترات من المياه يوميًا، وتشكل أوراقها طبقة معتمة على سطح الماء، ما يقلل من كمية الأكسجين التي تصل إلى الكائنات الحية في المياه، وقد يؤدي ذلك إلى اختفائها بالكامل. وقد أدرجت هذه النبتة منذ عام 2016 في قائمة المفوضية الأوروبية للنباتات الغازية، لما لها من تأثيرات سلبية على البيئة المائية.

في محاولة لطمأنة المواطنين، أكدت وزارة البيئة العراقية الاثنين أن “مديريات الماء في مدن الفرات الأوسط تعتمد معايير علمية دقيقة لتنقية المياه الصالحة للاستخدام البشري”، مشيرة إلى أن “نوعية المياه ضمن المواصفات القياسية المقبولة” وصالحة للاستخدام.

لكن هذه التصريحات لا تبدد القلق المتزايد لدى السكان والخبراء، خاصة في ظل استمرار انخفاض المنسوب المائي، وتزايد التلوث، وانتشار النباتات الغازية، ما يضع العراق أمام تحديات بيئية ومائية غير مسبوقة، تتطلب تحركًا عاجلًا على المستويين المحلي والدولي.

ويرى مراقبون أن حل أزمة المياه في العراق لا يمكن أن يتم بمعزل عن التعاون الإقليمي، خاصة مع تركيا وإيران، لضمان تقاسم عادل للموارد المائية المشتركة. كما أن الاستثمار في تقنيات الري الحديثة، وتحسين إدارة الموارد، وتوسيع حملات التوعية، تُعد خطوات ضرورية للتخفيف من آثار الجفاف والتغير المناخي.

في بلد يُعرف تاريخيًا بأنه “أرض الرافدين”، يبدو أن الحفاظ على دجلة والفرات لم يعد مجرد قضية بيئية، بل بات مسألة وجودية تمس الأمن الغذائي والصحي والاقتصادي لملايين العراقيين.

op

16