العراق يفتح تحقيقا في الفساد المالي للحشد الشعبي بعد العقوبات الأميركية

الحكومة العراقية تعرب عن أسفها وقلقها تجاه عقوبات تستهدف شركة المهندس العامة لكنها تتخذ موقفا لينا بين حليفها الأميركي والكيانات النافذة بالحشد الشعبي.
الأحد 2025/10/12
عقوبات تضرب قلب شبكة التمويل الموالية لإيران

بغداد - رغم إبداء الحكومة العراقية أسفها وقلقها تجاه العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على شركة تابعة لهيئة الحشد الشعبي وميليشيات وأفراد عراقيين، متهمة إياهم بمساعدة النظام الإيراني في التهرب من القيود الأميركية، فقد أعلنت بغداد في الوقت نفسه عن بدء تحرك داخلي واسع وتشكيل لجنة عليا للتحقيق في الفساد المالي المحتمل للفصائل المستهدفة.

وأعلنت الحكومة الأميركية الخميس، فرض سلسلة عقوبات تستهدف شركة "المهندس" التابعة للحشد الشعبي وميليشيات وأفرادا عراقيين متهمين بالتقرب من طهران ومساعدتها في "تجنب العقوبات الأميركية وتهريب الأسلحة وزيادة الفساد في العراق".

ويأتي هذا التحرك بعد أسابيع قليلة من إعلان الخارجية الأميركية، في 17 سبتمبر الجاري، تصنيف أربعة فصائل عراقية كـ"منظمات إرهابية أجنبية"، وهي كل من حركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وحركة أنصار الله الأوفياء، وكتائب الإمام علي، في خطوة تفتح الباب أمام تداعيات سياسية وأمنية محتملة داخل العراق وخارجه، ما يشير إلى استراتيجية أميركية متصاعدة لتقليم أظافر النفوذ الإيراني.

وأعربت الحكومة العراقية السبت عن أسفها وقلقها تجاه قرار واشنطن، متخذة موقفا حذرا اتسم بالليونة والحياد النسبي بين حليفها الأمني الأكبر (الولايات المتحدة) والكيانات الداخلية النافذة المشمولة بالعقوبات (الحشد الشعبي وفصائله).

وقال باسم العوادي المتحدث باسم الحكومة العراقية في بيان السبت إن "حكومة العراق ترى أن هذا الإجراء الأحادي مؤسف للغاية ويتنافى مع روح الصداقة والاحترام المتبادل التي لطالما ميّزت العلاقات الثنائية بين البلدين".

وأشار العوادي إلى أن اتخاذ مثل هذا القرار "من دون تشاور أو حوار مسبق يُشكّل سابقة سلبية في نهج التعامل بين الدول الحليفة"، في إشارة واضحة إلى استياء بغداد من تهميش دورها السيادي في التعامل مع هذه الملفات الحساسة.

لم يقتصر بيان الحكومة على التعبير عن الأسف فحسب، بل حاول رسم خطوط حمراء داخلية تؤكد على مبدأ السيادة وعدم القبول بالتدخلات الخارجية، مع الإقرار الضمني بضرورة معالجة مظاهر الفساد.

وأكد العوادي أن "العراق يرفض أي نشاط اقتصادي أو مالي يخرج عن الإطار القانوني الوطني، أو يُستغل لتمويل جماعات مسلحة، أو لأغراض تتعارض مع المصالح العليا لشعبنا".

وشدّد المتحدث باسم الحكومة على مضي الحكومة "في إجراءات شفافة، تضمن حماية المال العام، ومنع اي جهة من التصرّف خارج منظومة الدولة، بدون أن تقبل اي وصاية أو تدخل في الشؤون الداخلية".

وأضاف ان "رئيس مجلس الوزراء (محمد شياع السوداني) وجه بتشكيل لجنة وطنية عليا، تضم ممثلين عن وزارة المالية وديوان الرقابة المالية، وهيئة النزاهة، والبنك المركزي، تتولى مراجعة القضية ذات الصلة، وأن ترفع تقريرها وتوصياتها خلال 30 يوماً، بما يلزم من إجراءات قانونية وإدارية".

ويُنظر إلى هذا التحرك على أنه محاولة لتأكيد سلطة الدولة على المؤسسات المالية، وربما استخدام الأدوات القانونية والإدارية لترتيب أوضاع الكيانات المستهدفة، بدلا من الدخول في صدام مباشر مع القرار الأميركي.

ويشكّل هذا التصريح الحكومي محاولة دقيقة ومتوازنة لإدارة الأزمة المعقدة الناتجة عن العقوبات الأميركية، حيث تعترف الحكومة العراقية ضمنيا بضرورة مكافحة أي نشاط اقتصادي أو مالي يخرج عن الإطار القانوني الوطني، وخصوصا ما يُستغل لتمويل الجماعات المسلحة، وهو الأمر الذي يتقاطع مع جوهر الاتهامات الأميركية بتورط فصائل معينة في قضايا فساد وتهريب أموال.

ويهدف استخدام الحكومة لمصطلح "المصالح العليا لشعبنا" إلى تأكيد سيادتها المطلقة ورفضها القاطع للتدخل أو الوصاية الخارجية في شؤونها الداخلية، مُعلنة بوضوح أن جميع الإجراءات الرقابية والإدارية ستُتخذ استناداً إلى القانون العراقي وخدمة للمصلحة الوطنية.

وأورد بيان أصدرته وزارة الخزانة الأميركية أن هذه "الجماعات المدعومة من إيران"، بالإضافة إلى مسؤوليتها عن مقتل أميركيين، "تعمل عمداً على إضعاف الاقتصاد العراقي، والاستيلاء على الموارد من خلال استغلال النفوذ والفساد، وتقليل إمكان قيام حكومة عراقية فعّالة من شأنها أن تجعل المنطقة أكثر أمناً".

ومن بين المستهدفين بهذه العقوبات "كتائب حزب الله" النافذة التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية والتي وفقًا للرئيس الأميركي دونالد ترامب، لها علاقة بإطلاق سراح الأكاديمية الإسرائيلية الروسية إليزابيث تسوركوف، التي اختطفت في مارس 2023.

و"كتائب حزب الله" جزء من الحشد الشعبي، وهو تحالف فصائل جرى دمجها في القوات النظامية، وغالبا ما يتهم التشكيل باتخاذ قراراته على نحو مستقل.

كما استهدفت العقوبات رئيس اللجنة الأولمبية العراقية عقيل مفتن، إلى جانب شقيقه علي، واتُهم كلاهما بإقامة "علاقات وثيقة مع مسؤولي الاستخبارات في الحرس الثوري الإيراني"، كما اتُهمت مؤسستهما المصرفية بغسل الأموال الإيرانية.

ونقل بيان وزارة الخزانة الأميركية عن جون هيرلي، وكيل الوزارة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية قوله "نحن نسعى إلى تعطيل شبكات التمويل التي تُمكّن هذه الجماعات من العمل. وإن النجاح في تعطيل تدفقاتها المالية أمرٌ بالغ الأهمية لحماية أرواح الأميركيين وأمننا القومي".

وتشمل العقوبات الأميركية تجميد الأصول المملوكة، بشكل مباشر وغير مباشر، في الولايات المتحدة للشركات والأفراد المستهدفين، بالإضافة إلى منع الشركات أو المواطنين الأميركيين من التعامل معهم، ما يضع ضغوطا هائلة على تعاملاتهم الدولية ويزيد من عزلة هذه الكيانات داخل المنظومة المالية العالمية.

وينطبق هذا الحظر أيضًا على الشركات الأجنبية التي تستخدم الدولار في تعاملاتها مع الجهات المستهدفة بالعقوبات.

ويبيّن هذا التركيز على الجانب المالي والاقتصادي أن استراتيجية واشنطن تستهدف تجفيف مصادر تمويل نفوذ الحشد الشعبي والفصائل المرتبطة به.

ويبرز التصعيد الأخير عمق الاختبار الحساس الذي يواجه الحكومة العراقية، حيث تتأرجح في معادلة صعبة بين ضغوط محلية تمارسها قوى نافذة موالية لطهران، وبين ضرورة استدامة علاقات متوازنة مع الشركاء الدوليين، وتحديداً الولايات المتحدة.

وإزاء التبعات الاقتصادية والأمنية الوخيمة التي قد تنجم عن أي تصعيد إضافي، بات جليا أن بغداد تتجنب الانزلاق نحو مجاراة الدعوات للمواجهة الدبلوماسية أو الصدام مع واشنطن، إذ يرجح أن مثل هذا المسار سيلحق ضررا فادحا بمصالح الدولة العليا.

ويبدو أن القيادة العراقية تستوعب بشكل عميق أن الانصياع لمطالب بعض الأطراف المرتبطة بالمشروع الإيراني لن يعزز موقف العراق، بل قد يدفعه إلى عزلة دولية لا مبرر لها.

وتشكّل هذه العقوبات تحديا معقدا لحكومة محمد شياع السوداني التي تجد نفسها بين مطرقة الحليف الأميركي وسندان القوى السياسية والفصائلية المدعومة إيرانياً، والتي تمتلك نفوذا كبيرا داخل الدولة.

ومع إعلان الحكومة رفضها للتدخلات الخارجية، فإن تشكيل لجنة المراجعة يشير إلى محاولة لاحتواء الأزمة داخلياً، والتحرك نحو إصلاحات مالية وإدارية قد تقلل من مبررات العقوبات الأمريكية وتُعزز من سلطة الدولة على مواردها المالية.