السودان يركل الحرب بعيدًا

الساحات الترابية تجمع شبانًا من مختلف الخلفيات، من شمال السودان وجنوبه، من غربه وشرقه، من نازحين وسكان أصليين، دون سؤال عن القبيلة أو الموقف من الحرب، فالمهم من يسجل الهدف القادم.
الثلاثاء 2025/10/21
كرة القدم مساحة للشفاء الجماعي

الخرطوم – بين منازل نصفها مهدّم ونصفها الآخر يسكنه الحذر، في منطقة الحارات بمدينة أم درمان شمالي العاصمة السودانية، تمتد ساحة ترابية غير مستوية، تحيط بها أطراف من الركام وأشجار ذابلة. هناك، يضع الأطفال حجرين لتحديد المرمى، وينطلق الغبار في الهواء مع أول ركلة للكرة.

ومع حلول العصر، تضج الساحة في الحارة (95) بـ”غرب الحارات” بالحركة، حيث يتجمع الصبية والشباب في ملعب بلا خطوط أو حكم أو مدرجات، بينما يجلس الجمهور من الأطفال والنساء والشيوخ على أطراف الساحة فوق حجارة أو صناديق مكسورة.

في تلك اللحظات، تغيب الحرب والجوع والنزوح عن الأحاديث، ويحل محلها الحديث عن “الهدف” و”التمرير” و”اللعب الجميل”، وكأن الرياضة تحولت إلى علاج جماعي من الصدمة، ولغة بديلة للتنفّس.

ويقول معز خليل، لاعب بأكاديمية المعلم الرياضية، “هذه الساحات أصبحت متنفسًا للأسر، نمارس كرة القدم رغم غياب الأدوات”. ويضيف لوكالة أنباء (شينخوا)، “لا شباك ولا زي موحد، فقط نحاول استعادة إيقاع الحياة”.

pp

ومنذ منتصف أبريل 2023، تعيش البلاد حربًا أثّرت على النشاط الرياضي، وأدت إلى تعليق الدوري الممتاز وتضرر البنية التحتية، بما فيها استاد الخرطوم واستادا الهلال والمريخ. ورغم استئناف دوريات محلية في يناير 2025، لم تُستأنف البطولات الكبرى.

ويقول سامي عبد الرحمن، لاعب سابق، “كنا نعيش في خوف، ثم بدأت الكرة تعيد لنا إحساسنا بأننا بشر، لا مجرد ناجين”. ويضيف: “كل ركلة تفرغ شيئًا من الغضب والخوف، لم تعد الكرة مجرد تسلية، بل علاج جماعي”.

وتُقام المباريات بلا تنظيم رسمي، لكنها تملأ فراغ المدينة. ويؤكد الأخصائي الاجتماعي عبد الله النور أن اللعب يساعد على التنفيس العاطفي ويخلق شعورًا بالأمان والانتماء، حتى لمن فقدوا بيوتهم.

ويضيف، “الرياضة، خصوصًا كرة القدم، تُعيد الإحساس بالانتماء، وتنظم الفوضى داخل النفس. الركض خلف كرة صغيرة يصبح شكلًا من أشكال مقاومة الانهيار النفسي”.

وتجمع الساحات الترابية شبانًا من مختلف الخلفيات، من شمال السودان وجنوبه، من غربه وشرقه، من نازحين وسكان أصليين، دون سؤال عن القبيلة أو الموقف من الحرب، فالمهم من يسجل الهدف القادم.

ويقول عمر علي، نازح إلى أم درمان، “هنا لا أحد يسألني من أين أتيت، نحن فريق واحد، نكسب أو نخسر معًا”. ويضيف،”كنا مكتئبين، لا عمل ولا ترفيه، بدأنا نلعب لننسى، والآن صارت الكرة أهم لحظة في يومنا”.

pp

وتصف مبادرات شبابية ظاهرة “الكرة الترابية” بأنها من أكثر أشكال الدعم النفسي فعالية بعد الحرب. تقول آمنة التجاني، متطوعة في مبادرة “نلعب لنعيش”: “الشباب الذين فقدوا أقاربهم أو بيوتهم يجدون في اللعب وسيلة لاستعادة التوازن، الكرة تمنحهم هدفًا، ولو مؤقتًا”.

وترى آمنة أن كرة القدم هنا تتجاوز الرياضة، فهي تعيد بناء النسيج الاجتماعي، وتمنح الناس إحساسًا بأنهم مجتمع واحد يتشارك الهمّ والأمل.

ويقول خليل خميس، مدرب بأكاديمية المعلم: “كرة القدم على التراب ببساطتها ودفئها، هي أصدق وجه للحياة في مدينة تتعلم الشفاء من الحرب”. ويضيف: “الكرة لم تعد مجرد لعبة، بل نبضة قلب جماعية في مدينة فقدت إيقاعها”.

أما بدر الدين فضل الله، أمين الشباب بالحارة (95)، فيرى أن “الكرة الترابية دليل على عودة الحياة واستقرار الأوضاع الأمنية”. ويضيف: “لدينا ثلاث أكاديميات تضم براعم من السكان والنازحين، الحرب علمتنا معنى الخسارة، والكرة تعلمنا فنّ البقاء”.

ويختم، “ما نفعله ليس ترفًا، بل صناعة للحياة من التراب، ونشيد من الصمت، وكأننا نقول: الشفاء ليس وعدًا، بل فعل جماعي يبدأ بركلة”.

o