الإهمال والتلاعب بمواصفات البناء ونظم السلامة يحصدان المزيد من الأرواح في العراق
سقوط العشرات من القتلى والجرحى في الحريق الذي نشب في مركز تجاري بالعراق لا يعتبر حدثا عارضا في البلد الذي تعوّد سكانه على تكرار مثل تلك الكوارث المتواترة كنتيجة منطقية للفساد المستشري في مفاصل الدولة والمتضافر مع ظاهرة الإهمال وتهالك البنى التحتية وضعفها، لتشكّل معا نوعا آخر من الإرهاب الذي لا ينقطع عن حصد أرواح العراقيين.
الكوت (العراق)- يُخرجُ تواتر الحوادث المميتة في العراق كل سنة وكثرة عدد ضحاياها البشرية وضخامة ما ينجم عنها من خسائر مادية تلك الحوادثَ عن سياق الأحداث الاستثنائية العارضة، ويدخلها في سياق ما هو متوقّع كنتيجة منطقية لسلسلة من العوامل تبدأ بالتلاعب بمواصفات البناء وإقامة المشاريع والمنشآت والتغاضي عن نظم ووسائل الحماية والسلامة، وتمر بسوء التصرف والإدارة وتصل إلى الفساد الإداري والحكومي وضعف الرقابة وغض الطرف عن التجاوزات.
وأوقع حريق شبّ ليل الأربعاء – الخميس في مركز تجاري بمدينة الكوت مركز محافظة واسط بشرق العراق، العشرات من الضحايا بين قتلى وجرحى معيدا إلى الإذهان حرائق مشابهة وحوادث مميتة أخرى شهدها البلد بشكل متكرّر خلال السنوات الماضية ومن بينها ما طال مرافق عمومية مثل المستشفيات وغيرها.
وحدّدت حصيلة أولية أصدرتها السلطات الصحية في الكوت عدد القتلى والمفقودين في الحريق الذي أتى على جزء كبير من مبنى هايبر ماركت الكورنيش بأكثر من ثمانين شخصا.
وسارعت الحكومة المحرجة من الحادثة التي تدرك السلطات جيدا أنّها ستتحوّل سريعا إلى مدار للمزايدات السياسية خصوصا وأنها جاءت في مرحلة المسير نحو الانتخابات التشريعية، إلى إعلان الحداد الرسمي ثلاثة أيام تضامنا مع عوائل ضحايا الحريق وفتح تحقيق للوقوف على أسبابه وتحديد المسؤوليات عنه.
وفي المقابل لم تتأخر جهات عراقية في نسبة الحصيلة الثقيلة للحادثة إلى الإهمال والفساد وضعف وسائل الحماية وبطء النجدة والإنقاذ.
وتقدم مقتدى الصدر زعيم التيار الوطني الشيعي عبر بيان صادر عن مكتبه بتعازيه لذوي من سمّاهم “شهداء فاجعة الكوت الأليمة”، التي قال إنّها “تضاف إلى مآسي الشعب العراقي ومعاناته نتيجة الفساد بكل أنواعه والإهمال المتكرر”.
ومن جهته عزا سجاد سالم النائب بالبرلمان العراقي عن محافظة واسط كثرة عدد ضحايا الحريق إلى ضعف وسائل الإنقاذ التي قال إنّها لم تكن بالمستوى المطلوب، متعهّدا بمتابعة موضوع الكارثة حتّى تحديد المسؤولين عنها ومحاسبتهم، فيما أعلن محافظ واسط محمد جميل المياحي عن قيام السلطات المحلية بإقامة دعاوى قضائية ضد صاحب البناية والمركز التجاري المحترق. ويتسبب الافتقار إلى إجراءات السلامة في العراق في وفيات كثيرة نتيجة الحرائق. ففي عام 2023، لقي أكثر من مئة شخص حتفهم بعد اندلاع حريق في قاعة زفاف مزدحمة في بلدة بشمال العراق.
مقتدى الصدر: فاجعة الكوت تضاف إلى مآسي الشعب العراقي ومعاناته نتيجة الفساد
وعمّت مدينة الكوت موجة من الحزن المشوب بغضب الأهالي الذين هرع أعداد منهم إلى المستشفى بحثا عن أفراد من عائلاتهم فقدوا في الحادثة.
وأفاد شخصان وكالة فرانس برس بأنهما خسرا خمسة من أفراد عائلتيهما الذين توجهوا إلى المركز الذي دشن قبل حوالي خمسة أيام فقط للتسوق وتناول العشاء.
وقالت وزارة الداخلية في بيان إنّ غالبية من قضوا في الحادث ماتوا اختناقا نتيجة تصاعد كثيف للدخان، مشيرة إلى صعوبة تحديد هويات عدد من القتلى نتيجة تفحّم جثثهم. ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن المياحي قوله إن من بين الضحايا رجال ونساء وأطفال.
وأوضحت الوزارة في بيانها أن فرق الدفاع المدني تمكنت من إنقاذ أكثر من خمسة وأربعين شخصا كانوا عالقين داخل المبنى المؤلف من خمسة طوابق والذي يضم مطعما وسوبرماركت.
واندلع الحريق في وقت متأخر الأربعاء إذ ذكرت تقارير بأنه نشب بداية في الطابق الأول قبل أن ينتشر سريعا في هايبر ماركت الكورنيش. ولم يعرف سببه بشكل فوري لكن أحد الناجين قال إنّه نجم عن انفجار مكيف للهواء.
وبقيت سيارات الإسعاف تنقل الضحايا حتى الساعة الرابعة فجرا بتوقيت بغداد إذ غصّت مستشفيات الكوت الواقعة على بعد نحو 160 كيلومترا شرقي العاصمة بالضحايا.
وأظهرت تسجيلات مصوّرة على الشبكات الاجتماعية أقارب الضحايا عند المستشفى بانتظار الحصول على أي أنباء عن أحبائهم، فيما انهار بعضهم بالبكاء. وشوهد رجل جالس على الأرض يلطم ويصرخ “والدي آه يا قلبي”.
◄ حادث محرج للسلطات التي تدرك أنه سيتحول إلى مدار للمزايدات السياسية خصوصا وأنه وقع في فترة المسير نحو الانتخابات
وتجمّع العشرات أمام المستشفى حيث حاولوا التعرف على هويات الضحايا المنقولين في سيارات الإسعاف فيما بدا التأثر واضحا على بعضهم. وقال أحدهم ويدعى ناصر القريشي، وهو طبيب في الخمسينات من عمره، إنه فقد خمسة من أفراد عائلته في الحريق، موضحا بالقول “توجهنا إلى مركز التسوق لتناول العشاء والهرب من انقطاعات الكهرباء في المنزل.. انفجر مكيّف في الطابق الثاني ومن ثم اندلع الحريق ولم نتمكن من الهرب”.
وأعلن المياحي الحداد في المحافظة لمدة ثلاثة أيام، وأضاف “سنُعلن للرأي العام خلال ثمان وأربعين ساعة نتائج التحقيق الأولية”. ووجّه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بإجراء “تحقيق فوري في الأسباب والظروف المحيطة، وإجراء تحقيق فني دقيق لكشف أوجه التقصير، واتخاذ كل ما يلزم من إجراءات صارمة لمنع تكرار مثل هذه الحوادث”. ومن جانبه، قدّم المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني تعازيه لعائلات الضحايا.
ومع ارتفاع درجات الحرارة في الأيام الأخيرة تواتر اندلاع الحرائق في المتاجر والمخازن في أنحاء مختلفة من العراق.
وغالبا ما لا يتمّ التزام معايير السلامة في العراق الغنيّ بالموارد النفطية لاسيما في قطاعي البناء والنقل. ويعاني العراق أيضا من بنى تحتية متداعية نتيجة عقود من النزاعات والفشل التنموي المترتب على هدر الموارد وسوء التصرّف فيها، ما يؤدّي مرارا إلى اندلاع حرائق وكوارث مميتة أخرى.
وفي سبتمبر 2023 اندلع حريق في قاعة خلال حفل زفاف في بلدة قرقوش بمحافظة نينوى في شمال العراق خلّف 134 قتيلا، وقالت السلطات إن الألعاب النارية ومواد بناء شديدة الاشتعال تسببت في اشتعاله. وفي يوليو 2021، أسفر حريق في قسم مخصص لمرضى كوفيد في مستشفى الناصرية بجنوب العراق عن مقتل أكثر من 60 شخصا.